الأربعاء، 19 مارس 2008

(14) نقض استشهادهم بقول الله: ((واشتعل الرأس شيباً))...


(14) نقض استشهادهم بقول الله: ((واشتعل الرأس شيباً))...

قول الله تعالى : (( واشتعل الرأس شيباً )) ..
وتلك الآية هي الثالثة من الآيات التي ذكرها ابن المعتز , والاستعارة فيها عنده هي أن كلمة اشتعل استعيرت لشيءٍ لم يعرف بها , وهو الشيب , من شيء قد عرف بها و وهو النار , والشيب لا يشتعل بزعمه , وهي عند أبي عبد الله البصري المعتزلي ومن تبعه مجاز , يقولون : إن لفظ اشتعل وضع في أصل اللغة للنار , فهو حقيقة في النار , مجاز في غيرها , وهو يدل على أن النار من غير قرينةٍ , ولا يدل على غيرها إلا بقرينة بزعمهم .

والصواب في كل ذلك والله أعلم: أن الاشتعال في لسان العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم وبه نزل القرآن=هو أن يتفرق الشئ في الشئ وينتشر فيه ويعمه....

قلت: روى البخاري وغيره عن ابي هريرة , أن عبداً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : مدعم , جاءه سهم غائر فقتله , فقال الناس : هنيئاً له الشهادة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بلى والذي نفسي بيده , إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً )) الحديث .

وقال البخاري في كتاب صلاة الخوف من (( صحيحه )) , باب : الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو , وقال أنس : حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر , واشتد اشتعال القتال , فلم يقدروا على الصلاة , فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار , فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا , قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها .ا هـ

وقال ابن حجر في (( فتح الباري )) : قوله : اشتعال القتال بالعين المهملة ., وروى الإمام أحمد
والطبري في (( تاريخه )) حديثاً في ذكر طاعون عمواس , وفيه : لما اشتعل الوجع , وفيه : إن هذا الوجع إذا وقع , فإنما يشتعل اشتعال النار , وإسناده لا يحتج به .,

وقال الأزهري : قال أبو عبيد عن الأصمعي وأبي عمرو , قالا : الغارة المشتعلة المتفرقة , وقد أشعلت , إذا تفرقت , قال : ويقال أشعلت القربة والمزادة , إذا سال ماؤها , وقال : أشعل فلان إبله ., إذا عمها بالهناء , ولم يطل النقب من الجرب دون غيرها من بدن البعير الأجرب ,
ويقال : أشعلت جمعهم , أي فرقته , وقال أبو وجزة :
فعاد زمان بعد ذاك مفرق .........وأشغل ولي من نوى كل مشعل

قال : وأشعلت الطعنة , إذا خرج دمها , وأشعلت العين : كثر دمعها , وقال ابن السكيت : جاء جيش كالجراد المشعل , وهو الذي يخرج في كل وجه , وكتيبة مشعلة , إذا انتشرت , وأشعلت الطعنة , إذا خرج دمها متفرقاً , وجاء كالحريق المشعل : بفتح العين .. ا هـ , كذلك هو في (( تهذيب اللغة )) : كتيبة مشعلة إذا انتشرت ,

وفي (( تهذيب الألفاظ )) باب : الكتائب , والشعواء المنتشرة يقال : كتيبة شعواء , وشجرة شعواء , والمشعلة المتفرقة , قال أبو كبير ووصف طعنة :
مستنة سنن الفلو مرشة تنفي التراب بقاحز معروف
يهدي السباع لها مرش جدية شعواء مشعلة كجر القرطف .. ا هـ

وكل ذلك يدل على أن اشتعل يعم النار وغيرها , ولا يخص النار وحدها , وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن الشملة لتشتعل عليه ناراً )) حجة بينة على أن اشتعل ليس خاصاً بالنار , ولا معروفاً فيها وحدها , ولو كان خاصاً بها لكفى أن يقال : لتشتعل عليه , أو لتشتعل عليه اشتعالاً , ولم يحتج إلى أن يبين ذلك الاشتعال ما هو , وأنها تشتعل ناراً , وليس شيئاً غيرها ,والتأسيس أولى من التأكيد...

واختلف النحاة لم نصب (( شيباً )) في تلك الآية : فقال الأخفش في (( معاني القرآن )) , وقال : شيباً لأنه مصدر في المعنى , كأنه حين قال اشتعل قال : شاب فقال : شيباً على المصدر , وليس هو مثل تفقأت شحماً , وامتلأت ماءً , لأن ذلك ليس بمصدر . ا هـ ., ونقله عنه الطبري في (( تفسيره )) , ثم قال : وقال غيره نصب الشيب على التفسير , لأنه يقال اشتعل شيب رأسي , واشتعل رأسي شيباً , كما يقال تفقأت شحماً , وتفقأ شحمي .. ا هـ , وقال أبو اسحاق الزجاج في (( معاني القرآن وإعرابه )) , وشيباً منصوب على التمييز , المعنى اشتعل الرأس من الشيب , يقال للشيب إذا كثر جداً
قد اشتعل رأس فلان .. ا هـ , وذكر ابن النحاس في (( إعراب القرآن )) قول الأخفش , وقول أبي إسحاق , ثم قال : وقول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل والمصدر أولى به .. ا هـ , وقال الأزهري في (( تهذيب اللغة )) ونصب شيئاً على التفسير , وإن شئت جعلته مصدراً وكذلك قال حذاق النحويين .. ا هـ , وقول الأخفش إنه مصدر , كأنه قال شاب شيباً , خطأ , ولو كان شاب شيباً , كما زعم لدل على أنه شاب شيباً ما أي شيب قل أو كثر , ولجاز أن يقال : شاب شيبا قليلاً أو كثيراً , وأن يسأل حينئذ : أكان شيبه قليلاً أم كثيراً ؟
والصواب – إن شاء الله – أنه نصب على التمييز , كما قال أبو إسحاق الزجاج , وهو التفسير في اصطلاح بعض النحاة , فإن اشتعل عام يدل على أن شيئاً ما عم رأسه وتفرق في نواحيه , فاحتاج إلى ما يفسره ويميزه ويبين ما هو ذلك الشيء الذي عمه , فجاء شيباً ليبين أن الشيب هو الذي عم رأسه وتفرق في كل ناحية منه, والله أعلم .

وإذا كانت العرب يقولون اشتعل للنار وغيرها , فلا ندري بأي ذلك تكلموا أولاً , ولا سبيل إلى العلم به , ولا يذكر اشتعل في كلامهم إلا وفي كلام المتكلم أو أنبائه ما يبين ما أراد به , سواء أراد النار أم غيرها , فقولهم : إن اشتعل كان يعرف في النار دون غيرها , وإنه وضع في أصل اللغة للنار , فهو يدل عليها من غير قرينة , ولا يدل على غيرها إلا بقرينة , كله زعم باطل لا حجة له .


الاثنين، 17 مارس 2008

(13) لسان كل قوم هو لسانهم ولا يحمل لسان على لسان ولا يفسر لسان بلسان



(13) لسان كل قوم هو لسانهم ولا يحمل لسان على لسان ولا يفسر لسان بلسان

- اصطلاح النحاة هو ألسنة النحاة
وما سموه اصطلاح النحاة , هو ألسنة النحاة وألفاظهم التي تكلموا بها , ونقلوها إلى غير ما كانت تدل عليه بلسان العرب , وألسنة النحاة وألفاظهم كثيرة مختلفة , وليست لساناً واحداً , واللفظة الواحدة من ألفاظهم قد تدل في كلام كلِّ طائفة منهم غير ما تدل عليه في كلام طائفة أخرى , وما صار المتأخرون منهم يسمونه مبتدأ وخبراً وصفة وحالاً وتمييزاً كانت له عند المتقدمين منهم أسماء أخرى كثيرة , وكذلك غيرها من ألفاظهم , فمن فسر كلام المتقدمين من النحاة بما صارت تدل عليه الألفاظ بلسان المتأخرين منهم , أو فسر كلام المتأخرين بما كانت تدل عليه الألفاظ بلسان المتقدمين , أخطأ تفسير كلامهم , وقال عليهم ما لم يقولوا , وإنما يفسر كلام كل رجل من النحاة بما كانت تدل عليه الألفاظ بلسان ذلك الرجل خاصة دون غيره , وألسنة النحاة وألفاظهم يفسر بها كلام النحاة , ولا يفسر بها كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فإنما أنزل الله كتابه وبعث نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم بألسنة النحاة , فما تدل عليه الألفاظ في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما كانت تدل عليه بلسان أولئك العرب ؛ وليس بما صارت تدل عليه ألسنة النحاة .
2- اصطلاح المحدثين هو ألسنة المحدثين
وكذلك ما سموه اصطلاح المحدثين , ومصطلح الحديث , هو ألسنة المحدثين وألفاظهم التي تكلموا بها ونقلوها إلى غير ما كانت تدل عليه بلسان العرب ,وألسنة المحدثين كثيرة مختلفة , وليست لساناً واحداً , وما كانت تدل عليه الألفاظ بألسنة المتقدمين منهم , ليس هو ما صارت تدل عليه تلك الألفاظ بألسنة المتأخرين , فلا يفسر كلام المتقدمين بما صارت تدل عليه الألفاظ بلسان المتأخرين , ولا يفسر كلام المتأخرين بما كانت تدل عليه الألفاظ بلسان المتقدمين , وإنما يفسر كلام كل رجل من المحدثين بما كانت تدل عليه الألفاظ بلسان ذلك الرجل خاصة دون غيره , فلفظة حديث ضعيف وحديث حسن تدل بألسنة المتقدمين من المحدثين على غير ما صارت تدل عليه ألسنة المتأخرين , قال ابن تيمية في بعض فتاويه :وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف , فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسى الترمذي , ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله , وقد بين أبو عيسى مراده بذلك , قال : وأما من قبل الترمذي من العلماء , فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي , لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف , والضعيف عندهم نوعان : ضعيفٌ ضعفاً لا يمتنع العمل به , وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي , وضعيف ضعفاً يوجب تركه وهو الواهي ( ) .اهـ وقال في كتابه ((منهاج السنة النبوية)) وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح , وإما ضعيف والضعيف نوعان : ضعيف متروك , وضعيف ليس بمتروك , فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي , فسمع قول بعض الأئمة الحديث الضعيف أحب إلي من القياس , فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي , وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح , وهو في ذلك من المتناقضين , الذين يرجحون الشيء على ما هو عليه بالرجحان منه إن لم يكن دونه ( ) . اهـ , وقال ابن القيم في كتابه ((إعلام الموقعين)) وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين , بل ما يسميه المتأخرون حسناً , قد يسميه المتقدمون ضعيفاًَ كما تقدم بيانه ( ) اهـ , وقال الزركشي في كتابه ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) : وحكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتاب ((الجهر بالبسملة)) , عن القاضي ابن العربي أنه سمع ابن عقيل الحنبلي في رحلته إلى العراق يقول : مذهب أحمد أن ضعيف الأثر خير من قويِّ النظر , قال ابن العربي : وهذه وهلةٌ من أحمد لا تليق بمنصبه , قال الزركشي : قال شيخنا شرف الدين ابن قاضي الجبل : وإنما أتي من أنكر هذه اللفظة على أحمد لعدم معرفته بمراده ؛ فإن الضعيف عند أحمد غير الضعيف في عرف المتأخرين , فعنده الحديث ينقسم إلى صحيح وضعيف ؛ لأنه ضعف عن درجة الصحيح ؛ وأما الضعيف بالاصطلاح المشهور ؛ فإن أحمد لا يعرِّج عليه أصلاً ( ) اهـ , وقال ابن حجر في كتابه ((النكت على كتاب ابن الصلاح)) وقد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي , قال ووجد هذا من أحسن الأحاديث إسناداً في كلام علي بن المديني , وأبي زرعة الرازي , وأبي حاتم , ويعقوب بن شيبة , وجماعة , لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي , ومنهم من لا يريده , فأمَّا ما وُجد من ذلك في عبارة الشافعي ومن قبله , بل وفي عبارة أحمد بن حنبل , فلم يتبين لي منهم إرادة المعنى الاصطلاحي , بل ظاهر عبارتهم خلاف ذلك ( ) اهـ , ولعله أراد بالمعنى الاصطلاحي ما صار لفظ الحسن يدل عليه بلسان المتأخرين من المحدثين , وكلامهم في ذلك كثير , وكذلك غيرها من ألفاظهم .
وذكر أبو عمرو بن الصلاح في أول كتابه في ((علوم الحديث)) الآحاد والمتواتر , وما يفيد الظن وما يفيد اليقين , وكتاب أبو إسحاق النظام , وأبو الهذيل العلاف , وأصحابههما من المعتزلة هم أول من أحدث الكلام في الآحاد والمتواتر في الإسلام ولعلهم كانوا أخذوه من كلام اليهود في التلمود واختلافهم فيه, والمتقدمون من أئمة المحدثين لم يذكروا آحاداً ولا متواتراً , ولا ما يفيد الظن , وما يفيد اليقين , ولا علماً ضرورياً , ولا نظرياً ولا شيئاً من ذلك , فلما ذكرها أبو عمرو بن الصلاح اتَّبعه على ذلك المتأخرون من المحدثين ولم يفعل المحدثون في تلك الأبواب شيئاً وإنما نقلوا أشياء من كلام المعتزلة وغيرهم , ولم ينسبوها إليهم , فنسبت بعد للمحدثين , فتلك الأبواب كانت من كلام المعتزلة , ولعل أبا عمرو بن الصلاح كان هو أول من خلطها بكلام المحدثين , وألسنة المحدثين وألفاظهم يفسَّر بها كلامهم , ولا يفسَّرُ بها شيء من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
3- ألسنة الكتاب والأطباء والصناع وغيرهم
وكذلك ما سمُّوه اصطلاح الكتَّاب والبلاغيين , والأطباء والصنَّاع وغيرهم , إنما هي ألسنتهم التي يتكلمون بها , وتلك الألسنة كلها ألسنة محدثة , يفسر بها كلام من تكلم بها , ولا يفسر بها شيء من كلام الله وروسوله صلى الله عليه وسلم .

الخميس، 13 مارس 2008

(12) كلامهم في الألفاظ المشتركة هو بعض كلامهم في الحقيقة والمجاز ...


(12) الألفاظ المشتركة

كلامهم في الألفاظ المشتركة هو بعض كلامهم في الحقيقة والمجاز

قال أبو الحسين البصري المعتزلي في كتابه ((المعتمد)) : باب إثبات الحقائق المفردة والمشتركة , اعلم أن في اللغة ألفاظاً مفيدة للشيء الواحد على الحقيقة , وألفاظاً مفيدة للشيء وخلافه وضدة حقيقة على طريق الاشتراك ( ) . اهـ , وذكر أبو الحسين ذلك بعد كلامه في الحقيقة والمجاز , وقبل كلامه في الحقائق الشرعية , وقال الغزالي في ((المستصفى)) : إن الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل , ولنخترع لها أربعة ألفاظ , وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة , قال : وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتَّة كاسم العين للعضو الباصر , وللميزان , وللموضع الذي يتفجر منه الماء , وهي العين الفوارة , وللذهب , وللشمس , وكاسم المشترى لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف , قال : والاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه , وقد يدلٌّ على المتضادين , كالجلل للحقير والخطير , والناهل للعطشان والريَّان , والجون للسواد والبياض , والقرء للطهر والحيض ( ) . اهـ وقال الرَّازي في ((المحصول)) : اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك , قال : وقولنا وضعاً أولاً احترزنا به عمَّا يدل على الشيء بالحقيقة , وعلى غيره بالمجاز( ) اهـ , وقال الزركشي في ((البحر المحيط)) : قال ابن الحاجب في ((شرح المفصل)) : هو اللفظ الواحد الدَّال على معنيين مختلفين أو أكثر , دلالة على السَّواء عند أهل تلك اللغة , سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول , أو من كثرة الاستعمال , أو استفيدت إحداهما من الوضع , والأخرى من كثرة الاستعمال ( ) اهـ ؛ وقال الأرموي في ((التحصيل)) هو اللفظ الواحد المتناول لعدة معان من حيث هي ( ) كذلك بطريقة الحقيقة على السواء ( ) اهـ , وقال القرافي في ((شرح تنقيح الفصول)) : هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر ( ) . اهـ وقال ابن جزي المالكي في ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) : هو اللفظ الموضوع لمعنيين وضعاً لم ينقل من أحدهما إلى الآخر ( ) . اهـ , وقال الأصفهاني في بيان المختصر : هو اللفظ الواحد الموضوع لعدَّة معان وضعاً أولاً ( ) . اهـ , وقال ابن السبكي في ((الإبهاج في شرح المنهاج)) : المشترك هو اللفظ الواحد الدَّال على معنيين مختلفين أو أكثر , دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة , سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول , أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال ( ) اهـ , وهو نفس قول ابن الحاجب بلفظه , ذكره ابن السبكيِّ ولم ينسبه إليه , وقال الجرجاني في كتابه ((التعريفات)) : المشترك ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير , كالعين ,لاشتراكه بين المعاني ( ) اهـ وقال التهانوي في ((كشاف اصطلاحات الفنون)) : كون اللفظ لمفرد موضوعاً لمعنيين معاً على سبيل البدل من غير ترجيح ( ) . اهـ ؛ وقال الشوكاني في (( إرشاد الفحول)) هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أوّلاً من حيث هما كذلك ؛ فخرج بالوضع الأول ما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز ( ) اهـ .
وفي تلك الحدود كفاية , واتبعهم عليها أكثر المتكلمين , وقال بعضهم حدوداً أخرى غيرها , ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها ( ) , وكلامهم كله يشبه بعضه بعضاً , وأخذه بعضهم عن بعض , وتلك الحدود التي ذكروها كلها تدل على أن اللفظ المشترك هو اللفظ الذي يدل على شيئين أو أكثر , وهو لا يدل على أحدها حقيقة وعلى غيره مجازاً , ولكنه يدل عليها كلها حقيقةً , والأشياء التي يدل عليها قد تكون مختلفة أو متضادة , والحقيقة عندهم هي ما وضع له اللفظ أولاً في أصل اللغة , فاللفظ المشترك هو اللفظ في وضع أصل اللغة بزعمهم لشيئين مختلفين أو متضادين أو أكثر منهما , وقولهم إن اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح باطلٌ كله , والله تعالى علم آدم البيان , ثم اختلفت ألسنة بينه من بعده , وما كان اللفظ يدل عليه أولاً لا سبيل إلى علمه , ولا حجَّة عليه ؛ وإذا صار اللفظة بلسان قوم تدل على شيئين أو أكثر , فلابد أن يكون معها من كلام المتكلم أو أنبائه ما يبين ما أريد بها ؛ وإذا كان تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز باطلاً محدثاً , فتقسيم الحقيقة إلى مفردة ومشتركة باطلٌ مثله ؛ ونقل الزركشي في ((البحر المحيط)) عن أبي العباس ثعلب , وأبي زيد البلخيِّ , والأبهري أنَّهم أنكروا الألفاظ المشتركة , قال : ومنعه قوم في القرآن خاصَّة , ونسب لابن داود الظاهري , ومنعه آخرون في الحديث ( ) اهـ
وكل من أنكر تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز , فلا ريب ينكر تقسيم الحقيقة إلى مفردة ومشتركة ؛ إذ لا حقيقة ولا مجاز .

....................
2- الرد على قول أبي الحسين البصري المعتزلي في جواز وضع المشترك
وقال أبو الحسين البصري : ودليل جواز ذلك –يعني المشترك أنه لا يمتنع أن تضع قبيلة اسم ((القرء)) للحيض ؛ وتضعه أخرى للطهر ؛ ويشيع ذلك ويخفى كون الاسم موضوعاً لهماً من جهة قبليتين , فيفهم من إطلاقه الحيضُ والطهر على البدل ؛ وأيضاً فإن المواضعة تابعة للأغراض ؛ وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئاً مفصلاً ؛ وقد يكون غرضه بأن يعرفه مجملاً , مثال الأول : أن يشاهد زيد سواداً , ويريد أن يعرِّف عمراً أنه شاهد سواداً , ومثال الثاني أنه يريد تعريفه أنه شاهد لوناً ولا يفصِّله له ؛ فجاز أن يضعوا اسماً يطابق كل واحد من الغرضين ( ) اهـ , وقال الرازي : في سبب وقوع الاشتراك , السبب الأكثري وهو أن تضع كل واحدة من القبلتين تلك اللفظة لمسمى آخر , ثم يشتهر الوضعان , فيحصل الاشتراك , والأقلي , هو أن يضعه واضع واحدٌ لمعنيين , ليكون المتكلم متمكناً من التكلم بالمجمل , وقد سبق في الفصل السابق أن التكلم بالكلام المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم ( ) أهـ
وهو نفس كلام أبي الحسين البصري سماه الرازي سبباً أكثرياً ؛ وسبباً أقلياً , ولم يزد عليه شيئاً ؛ وقوله : ولا يمتنع أن تضع قبيلةٌ اسم القرء للحيض , وتضعه أخرى للطهر ثم يشيع .

وذلك كله ظنٌّ باطل لا حجة له ؛ ولفظ قرء اختلف فيه , قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه ((معاني القرآن وإعرابه)) : أخبرني من أثق يرفعه إلى يونس بن حبيب أن الأقراء عنده يصلح للحيض والطهر , ويقال : هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها( ) اهـ ,وقال الأزهري في تهذيب اللغة : أخبرنا عبد الملك , عن الربيع , عن الشافعي , أن القرء اسم للوقت , فلما كان الحيض يجيء لوقت , والطهر يجيء لوقت جاز أن يكون الأقراء حيضاً وأطهاراً ( )اهـ , وذكر في الرسالة قريباً من ذلك ( ) اهـ, وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : والقرء , جعله بعضهم الحيضة , وقال بعضهم : الطهر , قال : وكل قد أصاب ؛ لأنه خرج من شيء إلى شيء , فمن قال : هو الحيض , فخرجت من الطهر إلى الحيض , ومن قال : بل هو الطهر , فخرجت من الحيض إلى الطهر , وأظنه أنا من قولهم : قد أقرأت النجوم , إذا غابت ( ) اهـ وقال أبو عبيد في ((غريب الحديث)) : فأصل الأقراء إنما هو وقت الشيء إذا حضر ( ) اهـ وقال الأزهري في ((تهذيب اللغة)) قال أبو عبيد : الأقراء : الحيض والأقراء : الأظهار , وقد أقرأت المرأة في الأمرين جميعاً ,وأصله من دنوِّ وقت الشيء ( ) اهـ , وقال ابن دريد في ((الجمهرة)) : وأقرأت المرأة إقراءً فهي مقرئٌ , واختلفوا في ذلك فقال : قوم : هو الطهر , وقال قوم : هو الحيض , وكل مصيب ؛ لأن الأقراء هو الجمع , والانتقال من حال إلى حال فكأنه انتقال من حيض إلى طهر , وهو الأصح والأكثر , ويجوز أن يكون انتقالاً من طهر إلى حيض ( ) اهـ , وأخذه أكثر من كلام أبي عبيدة ؛ فلفظ قرء ليس يدل على شيئين الحيض والطهر ولكنه مختلف فيما يدل عليه . وكثير من الألفاظ التي زعموا أنها مشتركة هي كذلك ألفاظٌ اختلف فيما تدل عليه , وليست ألفاظاً تدل على أشياء مختلفة ؛ والناس يحتاجون في كلامهم إلى التفصيل والإجمال , والبيان والإبهام ؛ وليست الألفاظ من وضع واضع من الناس , وقول الرازي : أكثري وأقليٌّ هو من كلام المولِّدين وألفاظهم , وليس بلسان العرب ؛ وخيرٌ للمتفقهين أن يتشبهوا بلسان العرب الذي نزل القرآن به , ولا يتشبهوا بلسان الرَّازي وغيره من العجم المولدين . .

الأربعاء، 12 مارس 2008

(11) أنموذج لسطحية نفر من الباحثين في معالجة قضية المجاز...


(11) أنموذج لسطحية نفر من الباحثين في معالجة قضية المجاز...

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده....

فمن أشد ما يثير العجب ويحرك الدهشة في نفسي =تلكم السطحية التي يتناول بها جل الباحثين قضية المجاز وإثباته ونفيه....

فمن مظاهر تلك السطحية محاولة تصوير الخلاف على أنه قضية الصفات وإثباتها وحسب؛فمن أثبت الصفات على ما كان عليه النبي وأصحابه= فقد جاز القنطرة،وليقل بعد ذلك في اللسان والشرع وأصول الاستدلال والفهم ما شاء وليخبط كيف شاء تحت مظلة المجاز...

أما أشد ما تظهر فيه هذه السطحية فهو محاولة تصوير القضية على أنها مجرد خلاف في تلقيب أسلوب من أساليب العرب وطريقة من طرائقها...

ولا أدري ماذا أُسمي تلك الشناعة ؛فلفظ التسطيح هين عليها....

ولبيان مدى الغفلة والتسطيح المسيطرين على هذا القول أقول:

العرب استعملت اللفظة الواحدة وأرادت بها أكثر من معنى...إلى هنا وهذا قدر متفق عليه لا نزاع فيه...

الآن: لنتصور أن باحثاً سمى هذا الأسلوب من أساليب العرب= توسعاً

وسماه آخر: تجوزاً

وسماه ثالث: فخامة

وسماه رابع: اتساعاً

إلى هنا وهنا فقط يمكننا تسمية ذلك خلافاً لفظياً ويمكننا عد الخلاف هنا من بابة الخلاف في التلقيب فحسب....

طيب ....هل هذه هي حقيقة الحال في مسألة المجاز والنزاع فيه (؟؟؟)

الجواب: لا وكلا وكلا ولا .......

فواقع الحال: أن لدينا تياراً كبيراً نحن نتنازع معه .هذا التيار مارس من أنواع التألي والادعاء على العرب والعربية والشرع ما لا يمكن وصفه ووصف خطورته إلا بوصف واحد وهو: الجناية.

زعموا ولبئس ما زعموا:

1- إن أحد هذه المعاني التي تكلمت العرب بهذا اللفظ تريدها هو المعنى الحقيقي وهو الذي ينبغي حمل الكلام عليه إذا خلا الكلام من القرائن ...ومعنى حمل الكلام : أنك تقول: إن المتكلم الذي بيني وبينه قرون قد أراد هذا المعنى بالذات.

2- ثم زادوا في الزعم والتألي فقالوا إن هذا المعنى الحقيقي هو الذي وضع له اللفظ منذ نشأة اللسان ...يا سلام

3- ثم زادوا في الزعم والتألي فقالوا إن المعاني الأخرى غير هذا المعنى الحقيقي مجاز وإنه لا يجوز أن يقال إن المتكلم أراد معنى منها إلا مع وجود القرينة ...ومش بس كده حتى لو وجدت القرينة فمادام الحمل على المعنى الأول الحقيقي ممكن فإنه يمتنع الحمل على المجاز...

وزادوا وعادوا وكرروا وفرعوا وزادوا ونقصوا وبنوا وهدموا واشترطوا وأجازوا ومنعوا...

ولو جئت تسأل من أنبأكم بهذا عن العرب...ومن أين لكم هذه الحدود والقوانين ومن أخبركم أن اللغة موضوعة ومن أعلمكم أن هذا المعنى بالذات حقيقي وأن الآخر مجاز...حاروا وأبلسوا وصارت الألسنة مضغ لحم تُلاك في الفم لا تدري ما البيان....

ما علينا....

الآن مع كل هذه الأحكام التي رتبها من وصف طريقة العرب آنفة الذكر هل لا يزال يسوغ أن نقول: إن الخلاف خلاف في التلقيب وما الفرق بين أن نسميه حقيقة ومجازاً وبين أن نسميه اتساعاً وتوسع ،أو حقيقة مفردة وحقيقة تركيبية و...و... (؟؟؟)

لا لا يجوز أبداً ...بل هذا لعب بالعقول وسخرية باللسان وأهله...

بل مذهب المجاز مذهب تام قائم له أحكام وقوانين وتبعات وليس مجرد تلقيب...

ولا والله ما جرت أحكامه وقوانينه على أمة العرب والإسلام إلا الفساد =فساد الدين وفساد اللسان...

السبت، 1 مارس 2008

(10) لا تقل: الأمر للوجوب مالم يصرفه صارف..


(10)لا تقل: الأمر للوجوب مالم يصرفه صارف..
صيغة افعل ليست خاصة بالأمر
وهي لا تدل على وجوب ولا غيره إلا ببينة.

وهذا من الآثار الأصولية لباب المجاز وإثباته ...ولو تابع معنا إخواننا لعلموا أن المسألة ليست باب الصفات الإلهية وفقط...بل فساد عم وطم..
وهذا الباب من الأبواب التي لم يُطرد فيها نفاة المجاز قولهم...فتجدهم ينفون أن يكون للفظ معنى أصيل وضع له لا يخرج عنه إلا بقرينة...ثم تجدهم رغم هذا يقولون: الأمر للوجوب مالم يصرفه صارف..
ومحل البحث هنا ليس في الأمر الذي هو(( ألف ولام وميم)) فلهذا بحث آخر...وإنما محل البحث هنا هو صيغة الأمر –كما أسموها- ((إفعل)) ...
فتجد نفاة المجاز وغيرهم قد استقر أمرهم اليوم على أن هذه الصيغة الأصل فيها أنها تفيد الإيجاب مالم يقم صارف يصرفها إلى معانيها الأخرى التي تُستعمل فيها كالندب والإباحة وغيرها...
وقولنا الذي نراه : إن صيغة إفعل تستعمل للدلالة على الأمر المقتضي للإيجاب وتستعمل للدلالة على الندب وتستعمل في غير ذلك من المعاني...ولا يوجد لمعانيها معنى هو حقيقي والآخر مجازي...بل تستعمل في هذه المعاني جميعاً وتلك الصيغة وحدها ليست حجَّة على الوجوب ولا غيره , ولابد أن يكون معها في نفس الكلام أو غيره ما يبين ما أريد بها ؛ فلا يقال إنها تدل على وجوب غيره إلا ببينة .
وتلك الصيغة افعل بلسان أولئك العرب قد تدل على الوجوب , وقد تدل على الندب والإباحة وغيرها , ولابد أن يكون معها ما يدل على ما أريد بها
قال الشوكاني في حديثه عن صيغة الأمر في ((إرشاد الفحول)) : فذهب الجمهور إلى أنها حقيقةٌ في الوجوب فقط , وصححه ابنُ الحاجب , والبيضاوي , قال الرازي : وهو الحقُّ , وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي , قيل : وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه ( ) اهـ .
قلت: وهذا كلام لا أدري أي أوابد الخطأ فيه أصيد أولاً...وقد اخترتُ هذا النقل عن الشوكاني لا لنفسه وإنما كأنموذج لهذه المقالة التي استقرت عليها كتب الأصول وصار وسار عليها عمل الناس اليوم وهي خطأ كلها.
فالذي ينسبه الشوكاني للجمهور واستقر عليه الناس اليوم =أنها حقيقة في الوجوب ولا تصرف عنه إلا بقرينة صارفة..
والذي نقوله:
أنَّ ذلك القول الذي نسبه الشوكاني للجمهور هو قولٌ محدثٌ , ظهر في المائة الرابعة من الهجرة مع الكلام في الحقيقة والمجاز , ولم يكن ذلك القول قول أكثر المعتزلة , ولا كان قول الأشعرية , ولا روي شيء من ذلك عن الشافعي , ولا عن غيره من أئمة الفقهاء , فكيف يقال إنه قول الجمهور ؟ وإنَّما هو أحد قوليِّ أبي علي الجبائي , واتبعه عليه الكرخي , والجصاص , وأبو الحسين البصري , وأصحابهم من المعتزلة , ثم اتبعهم الجويني ودلَّسه بذكر الشافعي , ثم الرازي وأصحابه , فشاع ذلك القول في المتأخرين , وأولئك الذين ذكرهم الشوكاني : ابن الحاجب , والبيضاوي , والرازي , والجويني ليسوا هم جمهور الأصوليين ولا الفقهاء ؛ وقول الجويني : إنه مذهب الشافعي ليس حجَّة على أن الشافعي كان يقول به , ولم يروه الجويني عن الشافعي بإسناد لا يوثق به , ولا أتى بحجة من كلام الشافعي تدل عليه ؛ وخالفه الباقلاني وحكى عن كثير من أصحاب الشافعي إنه إنما وضع للندب إلى الفعل , ودلالة على حسنه , وأنه مرادٌ للآمر به فإن اقترن به ما يدل على كراهية تركه من ذمٍّ وعقاب كان واجباً...فلا يُقطع بنسبة قول معين من هذين القولين للشافعي.. وقال الزركشي في ((البحر المحيط)) : والذي يقتضيه كلام الشافعي أن له في الأمر قولين , أرجحهما أنه مشترك بين الثلاثة , الإباحة , والندب , والوجوب , والثاني أنه للوجوب))وهذا قول ثالث..
ولا حجَّة على أن الشافعي كان يقول بشيء من تلك الأقوال , ولا ذكر الشافعي في كتبه شيئاً منها , وأصحاب كل قول من تلك الأقوال أخذوا بقول الشافعي في بعض الآيات والأحاديث , وأعرضوا عن قوله في أمثالها , وكلام الشافعي في الآيات والأحاديث التي ذكرت فيها تلك الصيغة يدل على أنه كان لا يقول فيها بوجوب , ولا ندبٍ , ولا إباحة , ولا غيرها إلا بحجة .
وقول الشوكاني: وقيل هو الذي أملاه الأشعري على أصحابه , خطأ وتصحيف , دخل على الشوكاني لاعتياده النقل عن البحر المحيط للزركشي-والإرشاد تبع للبحر مسلوخ منه لا يزيد عليه سوى باختيارات الشوكاني- وتلك الكلمة ذكرها الزركشي في ((البحر المحيط)) , وابن السبكي في ((الإبهاج)) : ((قال الشيخ أبو إسحاق : وهو الذي أملاه الشيخ أبو الحسن على أصحاب الشيخ أبي إسحاق المروزي ببغداد)) ( ) . اهـ والشيخ أبو إسحاق هو أبو إسحاق الشيرازي , وكلام الزركشي يدل على أنه قال تلك الكلمة في كتابه ((شرح اللمع)) , وأبو إسحاق المروزي توفي سنة أربعين وثلاثمائة (340 هـ) ( ) بعد أبي الحسن الأشعري فأصحابه لم يدركوا أبا الحسن الأشعري ؛فأتى الشوكاني فظن أن أبا الحسن هذا هو الأشعري ،والذي عندي أن أبا الحسن في هذا النص لعله الذي هو أبو الحسن الباهلي البصري صاحب الأشعري ( ) ؛ فقول الشوكاني إنه قول الجمهور , خطأ باطلٌ , وإنما هو قولي أبي عليِّ الجبائي , والكرخي , والجصاص , وأبي الحسين البصري , وأصحابهم من المعتزلة , واتبعهم الجويني , والرازي , وأولئك ليسوا جمهور المعتزلة , ولا جمهور الفقهاء ولا المتكلمين .
وقال أبو بكر الجصاص في أصوله : وقول القائل افعل يستعمل على سبعة أوجه : على جهة إيجاب الفعل وإلزامه ؛ وعلى الندب ؛ وعلى الإرشاد إلى الأوثق والأحوط لنا , وعلى الإباحة , وعلى التقريع والتعجيز , وعلى الوعيد والتهديد , وعلى وجه المسألة والطلب , وذكر الشواهد على ذلك ( )اهـ وجعلها الغزالي في ((المستصفى)) خمسة عشر وجهاً , وقال : وهذه الأوجه عدَّها الأصوليون شغفاً منهم بالتكبير وبعضها كالمتداخل ( ) اهـ , ونقلها عنه الرازي في ((المحصول)) ؛ والآمدي في : ((الإحكام)) , وغيرهما , وجعلها الزركشي في ((البحر المحيط)) ثلاثة وثلاثين معنى( ) وقولهم : الصيغة ووزن اللفظ كل ذلك محدث من كلام النحاة وليس من كلام العرب , ولا حجَّة على أن تلك الصيغة أو ذلك الوزن افعل كانت العرب تتكلم به للوجوب وحده , أو للوجوب والندب وحدهما , ثم نقلوه بعد ذلك إلى غيرها , وما كانت تدل عليه تلك الصيغة بلسان العرب القديم الأول , فلا سبيل إلى علمه , ولا حاجة إليه , والله تعالى لم ينزل كتابه ولا بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك اللسان القديم الأول وإنما أنزل كتابه وبعث نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم وتلك الصيغة افعل بلسان أولئك العرب قد تدل على الوجوب , وقد تدل على الندب والإباحة وغيرها , ولابد أن يكون معها ما يدل على ما أريد بها , والآيات والأحاديث التي ذكرت فيها تلك الصيغة منها ما يدل على الوجوب , ومنها ما يدل على الإباحة والندب وغيرها ؛ فلا يقال لآية أو حديث منها أريد بها وجوبٌ ولا غيره إلا ببيِّنة , وعمل السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء من بعدهم يدل على ذلك , فقد قالوا في بعض تلك الآيات والأحاديث : إنها تدل على الوجوب , وقالوا في بعضها إنها تدل على الندب أو الإباحة أو غيرها , وتلك الكلمة المحدثة : الأمر حقيقة في الوجوب فلا يصرف إلى غيره إلا بقرينة جعلت كثيراً من الفقهاء المتأخرين يقولون بوجوب أشياء ما قال أحد من السلف فيها , وتلك الصيغة وحدها ليست حجَّة على الوجوب ولا غيره , ولابد أن يكون معها في نفس الكلام أو غيره ما يبين ما أريد بها ؛ فلا يقال إنها تدل على وجوب غيره إلا ببينة .

الجمعة، 22 فبراير 2008

(9) مسابقة ندعو إليها مثبتة المجاز..


(9) مسابقة ندعو إليها مثبتة المجاز..

السادة مثبتة المجاز ..من الغني عن البيان أن لفظ أسد هو عندكم حقيقة في الأسد الحيوان مجاز في غيره..وأن لفظ الأسد يكون حقيقة في الحيوان إن جاء خلواً من القرينة اللفظية..

وإنا نطالب سعادتكم بأن تأتونا بشواهد من كلام العرب ذكروا فيها الأسد يريدون به الحيوان وكان كلامهم عارياً عن القرينة اللفظية الدالة على إرادتهم للأسد الذي هو الحيوان...

يا سادة أنتم تتكلمون عن العرب وعربية العرب وأن كلام العرب تأتي فيه لفظة الأسد عارية عن القرينة اللفظية وحينها يُراد به الأسد الذي هو الحيوان..

ونحن نطلب منكم أمثلة لهذا من كلام من يُحتج بعربيته...

(8) أبو زيد القرشي !!


(8) الردُّ على قول الدكتور عبد العزيز المطعني إن أبا زيد القرشيِّ سبق أبا عبيدة التيمي إلى ذكر المجاز

زعم د. المطعني في كتابه الذي طار به جل مثبتة المجاز كل مطار = أن أبا زيد القرشي سبق أبا عبيدة التيمي إلى القول بالمجاز ؛ وأن قول ابن تيمية إن المجاز حدث بعد القرون الثلاثة الأولى خطأ , وقال د. المطعني : ولم نعثر على ترجمة لأبي زيد القرشي ولم يعثر غيرنا من قبل , ويبدو أنه لا طريق لمعرفته سوى كتابه ((جمهرة أشعار العرب)) , وقد اختلف المحدثون في عصره ؛ فجرحى زيدان يرى أنه من أعلام القرن الثالث الهجري ؛ ويرى سليمان البستاني مترجم إلياذة هوميروس أنه توفي عام 170هـ ؛ ويقاربه في هذا الرأي بطرس البستاني ؛ ومن اليقين أن أبا زيد من رجال القرن الثاني الهجري ؛ لأن أبا زيد نفسه قد صرح في مقدمة كتابه المذكور بأنه سمع من المفضل بن محمد الضبِّي , والضبَّيُّ من رجال القرن الثاني بلا نزاع ( 1) .
وقال : وأبو زيد هذا توفي عام 170 هـ , على الصحيح ؛ لأنه تحديد قام عليه الدليل ؛ ومؤدى هذا أن المجاز بمعناه الفني الاصطلاحي قد عرف خلال القرن الثاني عرف بلفظه , وعرف بمعناه ؛ وهذا يقدح في صحة ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية من أنه لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى (2 ) ,
وقال د. المطعني : تقدم أن أبا زيد القرشي فضلاً عن أنه تعرض لذكر المجاز بلفظه ومعناه ؛ فإنه صرف كثيراً من النصوص عن ظواهرها ؛ والمرجح أن أبا زيد توفي عام 170 هـ ( 3) .
وقال : فأبو زيد القرشي , والرجح أنه توفي عام 170 هـ , ورد مصطلح المجاز عنده أكثر من مرة مضافاً إلى المعاني , ((مجاز المعاني)) ,والذي يرجح لدى الباحث أنه كان يقصد التصوير المجازي الذي استقر مفهومه فيما بعد (4 ) .
وقال د. المطعني اشتهر بين الباحثين أن أول من استعمل كلمة المجاز هو أبو عبيدة ؛ وهذا القول غير مسلَّمٍ به على إطلاقه ؛ لأن أبا زيد القرشي , وهو أسبق وجوداً من أبي عبيدة , كان قد استعمل كلمة المجاز قبل أبي عبيدة ؛ فأبو زيد على المرجح عام 170 هـ ؛ وأبو عبيدة توفي عام 208 هـ فالذي ينسب إلى أبي عبيدة اشتهار المجاز , وليس أسبقية القول به , وإن كان استعمال أبي زيد لكلمة المجاز أدق من استعمال أبي عبيدة , فأبو زيد أطلقه على ما هو مجاز فعلاً , وأبو عبيدة أطلقه على غير ما هو مجازٌ إلا في النادر ؛ وترجع أسباب الشهرة لأبي عبيدة ؛ لأنه جعل المجاز عنواناً لكتاب وأكثر من ذكره عند شرحه للآيات كثيرة بلغت حدّ الاستفاضة ؛ أما أبو زيد فلم يذكره إلا مرتين , فنسبت الشهرة للمكثر , وسلبت عن المقل (5 ) اهـ بلفظه .
وهذا أوان الفحص عن هذا الكلام وبيان خطأه وخطله:
1-أبو زيد القرشي هو محمد بن أبي الخطاب , وكتابه جمهرة أشعار العرب هو كل ما بلغنا أحداً من المتقدمين روى عنه ( 6) , ولا ذكر من أنبائه شيئاً , ونقل أبو زيد القرشي عن أبي عبيدة التيمي بغير إسنادٍ في عشرة مواضع من جمهرة أشعار العرب (7 ) , وروى عنه بإسناده إليه في ثلاثة مواضع أخرى قال في أحدها : حدَّثنا سنيد , عن حزام بن أرطأة , عن أبي عبيدة ( 8) , وقال في الثاني : حدثنا سنيد عن أبي عبد الله الجهمي من ولد جهم بن حذيفة , عن أبي عبيدة , وذلك الموضع في بعض نسخ الجمهرة دون بعض (9 ) , وقال في الثالث : أخبرنا المفضل , عن علي بن طاهر الذهلي , عن أبي عبيدة ( 10) , وذكر أبو زيد القرشي في أول ((جمهرة أشعار العرب)) باباً في اللفظ ومجاز المعاني , وقال : وفي القرآن مثل ما في الكلام العربي من اللفظ المختلف ومجاز المعاني ( 11) , وذكر قبل تلك الكلمة كلاماً هو كله في أول مجاز القرآن لأبي عبيدة , وذكر بعدها أمثلة قريبة الشبه بالأمثلة التي ذكرت في خطبة مجاز القرآن لأبي عبيدة , بل منها أمثلة هي نفسها في مجاز القرآن لأبي عبيدة , وتلك الكلمة التي ذكرها أبو عبيدة في خطبة ((مجاز القرآن)) , أو كأنها هي , وقد أملى أبو عبيدة ((مجاز القرآن)) عدة مرات , فتعددت رواياته واختلفت نسخه (12) , فلعل تلك الكلمة كانت كذلك في نسخة أبي زيد القرشي من ((مجاز القرآن)) , أو لعل أبا زيد أدَّى تلك الكلمة من حفظه فغيَّرها شيئاً قليلاً .
2-وأبو زيد يروي في تلك ((الجمهرة)) كذلك , عن محمد بن عثمان الجعفري , عن مطرِّف الكناني , عن ابن دأب ( 13) , وعن أبي العباس الوراق الكاتب , عن أبي طلحة موسى بن عبد الله الخزاعي , عن بكر بن سليمان , عن محمد بن إسحاق ( 14) , وعن المفضِّل بن عبد الله المحبري , عن أبيه , عن جدِّه عن محمد بن إسحاق كذلك ( 15) , وذلك المفضل ورد اسمه في بعض نسخ ((الجمهرة)) : المفضل بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن المحبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب ( 16) , وفي نسخة المفضل بن محمد الضبِّي , وهو خطأٌ بينٌ , والمفضل الضبي صاحب المفضليات كان معاصراً لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة , لا يحتاج إلى الرواية عنه بواسطة أبيه عن جده , وأولئك الأربعة : سنيد , والمفضل بن عبد الله المحبري , ومحمد بن عثمان الجعفري , وأبو العباس الوراق الكاتب , هم كل من روى أبو زيد في جمهرته عنهم , ولم أجد من أنبائهم شيئاً , ولا عثرت لأحدهم على ترجمة فأبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي مجهول , يروي عن نفر من المجاهيل , وأشعار تلك الجمهرة أكثرها مشهورة تناقلها الرواة غيره , وبينه وبين أبي عبيدة التيمي وابن دأب رجلان , وبينه وبين محمد بن إسحاق ثلاثة رجال , وتلك حجة بيِّنةٌ على أنه كان يعيش في الشطر الآخر من المائة الثالثة من الهجرة , ولا يبعد أن يكون أدرك أول الرابعة .
هذا , وذكر جورجي زيدان أبا زيد القرشي في كتابه ((تاريخ آداب اللغة العربية)) في العصر العباسي الأول , ولكنه قال : إنه يغلب على ظنه أنه عاش في أواسط القرن الثالث للهجرة أو في القرن الرابع ( 17) اهـ , والذي غلب على ظنه هو الصواب إن شاء الله , وقد مضت الحجة على ذلك , ولو أنه عمل بظنه وأخر ذكره إلى العصر العباسي الثاني لكان أحسن ؛ وقال بطرس البستاني في كتابه ((أدباء العرب في الأعصر العباسية)) : إن أبا زيد من أهل العصر العباسي الأول , لا من أهل العصر العباسي الثاني , ذاك لأنه أورد في كتابه الجمهرة روايات سمعها من المفضل الضبي , والمفضل الضبي توفي سنة 171 هـ أو نحو ذلك , وذلك يدل على أنه عاصره ( 18) اهـ , وقد مضى أن المفضل الذي يروي عنه أبو زيد ليس هو المفضل الضبي , وإنما هو المفضل المحبري , وأن ذكر الضبي هو خطأٌ في موضع واحد من إحدى نسخ الجمهرة , وليس في روايات كما زعم البستاني ,
وقال البغدادي في ((هدية العارفين)) و((إيضاح المكنون)) : إن أبا زيد القرشي توفي سنة سبعين ومائة 170 هـ ( 19) , وكذلك ذكر في ((فهرست الخديويَّة)) ( 20) , ثم ((فهرست دار الكتب المصرية)) (21) , ((فهرست الأزهرية)) ( 22) , و((معجم سركيس)) ( 23) , وكذلك ذكره سليمان البستاني في مقدمة ((الإلياذة)) (24 ) , والزركلي في ((الأعلام)) ( 25) , وكحالة في ((معجم المؤلفين)) ( 26) ,ولم يأت أحدهم عليه برواية صادقة , ولا حجَّة بينة , ولا أسنده لمتقدم , وهو خطأٌ نقله بعضهم عن بعض , وتلقفه عنهم د. المطعني في كتابه ((المجاز)) , وفرح به ورضيه , ولم يطلب له إسناداً , ولا سأل عليه برهاناً , ونسي ثورته على التلقي الفجِّ ( 27) , ومزاعم التحقيق العالمي التي ما انفكَّ يبثها في أرجاء كتابه , واتخذه حجة على أن أبا زيد القرشي سبق أبا عبيدة إلى القول بالمجاز , وأن أبا العباس ابن تيمية كان مخطأ لما قال : إن أبا عبيدة التيمي هو أول من عرف بالقول بالمجاز , وطفق د. المطعني يكرر ذلك في مواضع من كتابه , ويحسبه سبقاً بعيداً , وفتحاً مبيناً , ونصراً على ابن تيمية وأصحابه مؤزراً , وهو قول ساقطٌ لا حجَّة له ولا شاهد , وما قاله ابن تيمية صوابٌ بين .
وقوله : ومن اليقين أن أبا زيد من رجال القرن الثاني الهجري , هو كلام المطعني نفسه ؛ وهو قول باطلٌ ؛ وقد ذكر من قبل أن أبا زيد القرشي نقل في مقدمة كتابه عن أبي عبيدة التيمي , وروى عنه بإسناده إليه , وأن بينه وبين أبي عبيدة رجلان ؛ وقد يدل ذلك على أنه مات في آخر المائة الثالثة من الهجرة , ولعله أدرك الرابعة , كما قال جورجي زيدان ؛ وأن المفضل الذي يروي عنه أبو زيد القرشي هو المفضل المحبري ؛ وهو مجهول مثله ؛ وليس المفضل الضبي ؛ وأن الضبي هو تصحيف في نسخة واحدة من نسخ الجمهرة ؛ وقوله : لأن أبا زيد نفسه قد صرَّح في مقدمة كتابه المذكور بأنه سمع من المفضل بن محمد الضبي . ونقلها عنه محقق الجمهرة طبعة دار صادر ؛ وهي الطبعة التي كان د المطعني يرجع إليها , فأخذ د. المطعني تلك الكلمة , فادَّعاها لنفسه , ووصلها بكلامه , ولم يردَّها إلى قائلها , وأوهم أنه نقل أقوالهم , ثم رجَّح بينها بذلك ؛ وقوله : وأبو زيد هذا توفي عام 170هـ على الصحيح ؛ لأنه تحديد قام عليه الدليل اهـ هو أفحش خطأ من قوله إنه من أهل القرن الثاني , ولو كان أبو زيد سمع من المفضَّل الضبي ؛ وقيل : مات المفضل سنة إحدى وسبعين ومائة (171هـ) ( 28) . كما زعم بطرس البستاني , فما الدليل على أن أبا زيد مات قبله أو مات في نفس السنة التي مات فيها ؟ ! وأبوزيد القرشي نقل كلمة أبي عبيدة ؛ فالمجاز عند أبي زيد القرشي هو المجاز عند أبي عبيدة التيمي ؛ والمجاز عند أبي عبيدة ليس هو المجاز الذي تكلم فيه بعد ذلك أبو عبد الله البصري المعتزلي وغيره ؛ ولا هو المجاز الذي سماه د. المطعني المجاز الفني الاصطلاحي ؛ وابن تيمية – رحمه الله لم ينكر أن يكون القول بالمجاز ظهر في آخر المائة الثانية , بل أقر به ؛ وقوله إنه اصطلاحٌ حادث بعد القرون الثلاثة الأولى , أراد به الصحابة والتابعين وتابعيهم ؛ فهو يريد بالقرن الجيل من الناس ؛ وبين من كلام ابن تيمية أنه يفرِّق بين القرن من الناس , والمائة من السنين , فهو قال إن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز حدث بعد القرون الثلاثة الأولى ؛ وقال : إن أوائله ظهرت في المائة الثالثة ؛ فالقرن في كلامه هو الجيل من الناس , وليس المائة من السنين ؛ والقرون الفاضلة عنده , هم الصحابة والتابعون وتابعيهم ؛ وهو يأخذ في ذلك بحديث : ((خير القرون قرني , ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم , ثم يفشو الكذب ..)) الحديث ؛ والقرن في ذلك الحديث هو الجيل من الناس ؛ وليس المائة من السنين .
فذلك القول الذي فرح به د. المطعني وأصرَّ عليه , وذكره في خمسة مواضع من كتابه , وحسب أنه سبق به الناس , كله خطأ باطل , وأبو زيد القرشي لم يمت عام 170هـ , لا على الصحيح , ولا على المرجَّح , ولا على شيء , ولا كان يومئذ شيئاً مذكوراً , وعلى الصحيح , وعلى المرجح هي من ألفاظ النووي رحمه الله في نقله لمذهب الشافعية , وعنه شاعت تلك الألفاظ في المتأخرين منهم ؛ فأخذ د. المطعني تلك الألفاظ من فقهاء الشافعية ؛ أو لعلها عقلت بلسانه من كتب الأزهرية ؛ فخلطها بكلامه في المجاز , ووضعها غير مواضعها ؛ وعلى الصحيح يدل على أن غيره باطلٌ , وعلى المرجَّح يدل على أن غيره ليس باطلاً , ولكنه أرجح منه وأقوى ؛ وكذلك الاستفاضة من ألفاظ المحدثين أخذها د. المطعني ,ووضعها غير موضعها ؛ وتكرار لفظة واحدة في كتاب واحد مائة ألف مرة أو أكثر منها , ليس عند المحدثين من الاستفاضة ؛ بل لعل رواة كتاب المجاز عن أبي عبيدة كلهم لا تبلغ عدتهم حدَّ الاستفاضة ؛ بل لعل رواة كتاب المجاز عن أبي عبيدة كلهم لا تبلغ عدتهم حد الاستفاضة عند كثير من القائلين بها , والكتاب يروى عن أبي عبيدة رواية آحاد ؛ وإذا كان د. المطعني يعلم أن أبا زيد لم يذكر لفظ المجاز إلا مرتين اثنتين لا ثالث لهما , وأنه ذكر مضافاً إلى المعاني وليس إلى الألفاظ , فلم قال : ورد مصطلح المجاز عنده أكثر من مرة ! ولم يقل : ورد مرتين اثنتين؟! ولفظ أكثر من مرة يوهم أنها مرات كثيرة وليست اثنتين وليس الأمر كذلك وليس ذلك من صدق النصيحة...
=======
الحواشي:
( 1) ((المجاز في اللغة والقرآن)) (ص 147)
( 2) ((المجاز في اللغة والقرآن)) (ص 649)
( 3) ((المجاز في اللغة والقرآن)) (1054)
( 4) ((المجاز في اللغة والقرآن)) (1074)
( 5) ((المجاز في اللغة والقرآن)) (ص 1080-1081)
( 6) أريد روى عنه بالسماع منه , أو الإسناد المتصل إليه , ولكن نقل بعضهم من تلك الجمهرة بغير إسناد ولا زاوية .
( 7) ((جمهرة أشعار العرب)) (ص 55, 56, 58 , 80-81- فيها موضعان , 82- فيها ثلاثة مواضع )
( 8) ((جمهرة أشعار العرب)) (ص 45 )
( 9) ((جمهرة أشعار العرب)) (57)
( 10) ((جمهرة أشعار العرب)) ( ص 67)
( 11) ((جمهرة أشعار العرب)) ص (10)
( 12) انظر ما كتبه د. محمد بن فؤاد سزكين في مقدمة تحقيقه لـ((مجاز القرآن))
( 13) ((جمهرة أشعار العرب)) ص (30, 33, 57, 59)
( 14) ((جمهرة أشعار العرب)) (ص29, 31, 37)
( 15) ((جمهرة أشعار العرب)) (ص 26, 27, 34,47)
( 16) ((جمهرة أشعار العرب)) (ص10 هامش رقم 1)
( 17) ((تاريخ آداب اللغة العربية)) 2/110 , رقم (6) , وهامش رقم (2) من نفس الصفحة .
( 18) ((مقدمة جمهرة أشعار العرب)) ص 5 , ط . دار صادر بيروت
( 19) ((هدية العارفين)) 2/8 , و((إيضاح المكنون)) 1/368
( 20) ((فهرست الكبتخانة الخديوية)) 4/224
( 21) ((فهرت دار الكتب المصرية)) 3/76 نقلاً عن فهرست الخديوية
( 22) ((فهرست المكتبة الأزهرية)) 5/64
( 23) ((معجم المطبوعات العربية والمعربة)) , يوسف أليان سركس 1/313
( 24) مقدمة ((جمهرة أشعار العرب)) ط. دار بيروت بيروت
( 25) ((الأعلام)) 6/114
( 26) ((معجم المؤلفين)) 9/281
( 27) لفظ التلقي الفجِّ هو لفظ المطعني نفسه في خطبة كتاب ((المجاز))
( 28) قال الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) و((ميزان الاعتدال)) : توفي المفضل سنة 168هـ , وتبعه ابن الجوزيِّ في ((طبقات القراء)) , وقال ابن تغري بردي في ((النجوم الزاهرة)) ,توفي سنة 171هـ وبه أخذ بطرس البستاني , وقال أحمد شاكر , وعبد السلام هارون في مقدِّمة ((ديوان المفضليات)) إن كلا هذين القولين خطأ , ولعل الصواب أنه توفي سنة 178 هـ

الأحد، 13 يناير 2008

(7) من أين أتت فكرة المجاز وممن نقلها المتكلمون (؟؟؟)


(7) من أين أتت فكرة المجاز وممن نقلها المتكلمون (؟؟؟)


الحقيقة والمجاز في كتب الفلاسفة1-
1-كتاب الخطابة والشعر لأرسطو

قال النديم في ((الفهرست)) كتاب الخطاية لأرسطو طاليس , يصاب بنقل قديم ,رأيت أحمد بن الطيب هذا الكتاب نحو مائة ورقة بنقل قديم(1 ) , اهـ ووجدت نسخة من نقل عربي لكتاب الخطابة فى مكتبة باريس , وهى منقولة من خط ابن السمح وهو البغدادي المنطقي ( 2) وقال ابن السمح إنه قابلها على نسختين عربيتين سقيمتين , وإحداهما أشد سقما من الأخرى , وكان إذا أشكل عليه شيء منها رجع فيه إلى نسخة سريانية , ونشر د. عبد الرحمن بدوى تلك النسخة , وقال إنها قد تكون من ذلك النقل القديم الذي ذكره النديم , والنقل القديم في كلام النديم هو ما كان قبل نقل حنين بن إسحاق العبادي النصراني , فلعل ذلك النقل كان فى المائة الثانية من الهجرة .
وذكر المجاز والاستعارة في مواضع من المقالة الثالثة من تلك النسخة , قال : ((ومعظم التعبيرات فيما بعد , ويزداد إدراكا كلما ازداد علما , وكلما كان الموضوع مغايرا لما كان يتوقعه , وكان النفس تقول : هذا حق و وأنا التى أخطأت , واللطيف الرشيق من الأمثال ما يوحى بمعنى أكثر مما يتضمنه اللفظ , ولسبب عينه كانت الألغاز لذيذة , إنها تعلمنا أمورا على سبيل المجاز( 3) , وقال : وفي جميع هذه الأحوال إذا كان الاشتراك اللفظي أو المجاز هو الذي يأتي بالكلمة المناسبة , فإن النجاح مؤكد ( 4) , وقال : وكلما تضمنت العبارة معانى ازدادت روعة , مثل أن تكون الألفاظ مجازية , وكانت الاستعارة مقبولة , وثم تقابل أو طباق , وثم فعل , أما الصور فكما قلنا من قبل : إنها تغييرات – مجازات – مرموقة جدا , وتتألف دائما من حدين مثل الاستعارة التمثيلية (5 ) . اهـ بلفظة .
وأما كتاب الشعر , فقال النديم , إن الكندي – فيلسوف العرب – كان اختصره( 6) , والكندي كان معاصرا للجاحظ , ولا حجة على أنه كان هو أول من نقل كتاب الشعراء لأرسطو إلي العربية , ولعله كان نقل قبله , فاختصره هو من ذلك النقل , ووجدت منه نسخة بنقل أبى بشر متى من السرياني إلى العربي , وهو نقل رديء,
وطبع باليونانية عدة مرات , ونقله د. عبد الرحمن بدوي من اليونانية إلى العربية نقلا جديداً .
وكذلك ذكر فيه المجاز , قال : وكل اسم هو إما شائع, أو غريب , أو مجازى , أو حيلة , أو مخترع , أو مطول , أو موجز , أو معدل , قال : والمجاز نقل اسم يدل على شيء إلى شيء آخر , والنقل يتم إما من جنس إلى نوع , أو من نوع إلى جنس أو من نوع إلى نوع , أو بحسب التمثيل , وأعنى بقولي : من جنس إلى نوع ما مثاله , هنا توقفت سفينتي , لأن الإرساء ضرب من التوقف , وأما من النوع إلى الجنس فمثالة , أجل : لقد قام أودوسوس بآلاف من الأعمال المجيدة , لأن آلاف معناها كثير , والشاعر استعملها مكان كثير , ومثال المجاز من النوع إلى النوع قوله : انتزع الحياة بسيف من نحاس , وعندما قطع بكأس متين من نحاس , لأن انتزع هاهنا معناها قطع , وقطع معناها انتزع , وكلا القولين يدل على تصرم الأجل الموت , وأعنى بقولي : بحسب التمثيل , جميع الأحوال التي فيها تكون نسبة الحد الثاني إلى الحد الأول كنسبة الرابع إلى الثالث , لآن الشاعر سيستعمل الرابع بدلا من الثاني بدلا من الرابع و وفى بعض الأحيان يضاف الحد الذي تتعلق به الكلمة المبدل بها المجاز , ولإيضاح ما أعنى بالأمثلة أقول : إن النسبة بين الكأس وديونوسس هي النسبة بين الترس وأرس , ولهذا يقول الشاعر عن الكأس إنها ترس ديونوسس , وعن الترس إنه كأس أرس , وكذلك النسبة بين الشيخوخة والحياة هي بعينها النسبة بين العشية والنهار , ولهذا يقول الشاعر عن العشية ما قاله أنبا دقليس إنها شيخوخة النهار, وعن الشيخوخة إنها عشية الحياة أو غروب العيش , وفى بعض أحوال التمثيل لا يوجد اسم , ولكن يعبر عن النسبة , فمثلا نثر الحب يسمى البذر , ولكن للتعبير عن فعل الشمس وهى تنثر أشعتها لا يوجد لفظ , ومع ذلك فإن نسبة هذا الفعل إلى أشعة الشمس , هي بعينها نسبة البذر إلى الحب , ولهذا يقال : تبذر نورا إلهيا , ويمكن أيضا استعمال هذا الضرب من المجاز بطريقة أخرى , فبعد الدلالة على شيء باسم يدل على آخر , ننكر صفة من الصفات الخاصة بهذا الأخير , فمثلا بدلا من أن نقول عن الترس إنه كأس أرس , نقول عنه إنه كأس بلا خمر , قال : والاسم المخترع هو الذي لم يكن مستعملا قط ووضعه الشاعر من تلقاء نفسه , إذ يبدو أن هذه حال بعض الأسماء (7 ) .
وقال : فمن المهم إذن حسن استخدام كل ضرب من ضروب التعبير التي تحدثنا عنها من أسماء مضاعفة مثلاً , أو كلمات غريبة , وأهم من هذا كله البراعة في المجازات لأنها ليست مما نتلقاه عن الغير , بل هي آية المواهب الطبيعية , لأن الإجادة في المجازات معناها الإجادة في إدراك الأشباه (8 ) .
وقال : وبعض العبارات ينبغي أن يفهم على أنه قيل على سبيل المجاز , مثلاً قوله : جميع الآلهة وجميع المحاربين ناموا الليل كله , بينما يقول أيضاً , لما أن جلي ببصره إلى سهل طروادة , ذهل حينما سمع صوت النايات والصفارات , لأن جميع وضعت مكان كثير مجازاً , لأن الجميع يفترض العدد الكبير , وكذلك قوله : وحيدة لا تغرب , مقول مجازاً , لأن المعروف هو : وحدها , قال : والبعض الآخر ( 9) يفسر بكون اللفظ ذا معنيين, ومنها ما يفسر بالإستعمال اللغوي فلفظ خمر يطلق على أي مشروب ممزوج , ومن هنا أمكن أن يقال : إن غانوميدس يصب الخمر لزيوس (10 ) وإن كان الآلهة لا يشربون الخمر , ويطلق على الذين يعملون في الحديد اسم النحاسين , ومن هنا أمكن أن يقال : ساق من القصدير حديثة الصنع , ولكن هذا يمكن أن يفسر أيضاً بواسطة المجاز (11 ) ا هـ وذكر فيه المجاز في مواضع أُخر .
وكل ما ذكر في هذين الكتابين – الخطابة والشعر – من المجازات بحسب التمثيل وإدراك الأشباه , والاستعارة التمثيلية , والاشتراك اللفظي , والاستعمال اللغوي , ووضع اللفظ في موضع غيره , ونقل اسم يدل على شيء إلى شيء غيره , واختراع الشعراء لأسماء لم تستعمل قط قبلهم , كل ذلك هو نفسه ما ذكره الجاحظ ومن بعده من المتكلمين , وبعض ما ذكر فيها من الأمثلة هو نفسه ذكره عبد القاهر الجرجاني وغيره , وأخذ الجاحظ كلام أرسطو فعبر عنه بعبارته , وبسطه وشرحه , والتمس له الأمثلة في ألفاظ العامة والمولدين , وخلطها بلسان العرب , وزعم أن النابغة أحدث اسم المظلومة للأرض التي لم تحفر , ولم تحرث إذا فعل ذلك بها , ولم يتكلم به أحد قبله قط( 12) .
وكلام النظام , وأبي الهذيل العلاف , وثمامة بن أشرس , وبشر المريسي وغيرهم من رؤساء المتكلمين يدل على سعة علمهم بكتب أرسطو طاليس وغيره من الفلاسفة , وأنهم كانوا قرءوها كلها , وقرءوا كثيراً من شروحها , وروي ان جعفر بن يحيى البرمكي ذكر أرسطو طاليس , فقال النظام , قد نقضت عليه كتابه فقال جعفر : كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه ؟ فقال : أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره إلى أوله ؟ ثم اندفع يذكر شيئاً فشيئاً وينقص عليه , فتعجب منه جعفر , ( 13)
وروي كذلك أنه كان نظر في شئ من كتب الفلاسفه, ثم ناظر أبا الهذيل العلاف فوجده أعلم بها منه ( 14) , ونقل الجاحظ في كتاب ((الحيوان)) كلام النظام في طائفة من المفسرين , ومنه : وقال رجل لعبيد الله بن الحسن القاضي, إن أبي اوصى بثلث ماله في الحصون, قال: اذهب فاشتر به خيلا, فقال الرجل, إنه إنما ذكر الحصون,قال: أما سمعت قول الأسعر الجعفي:
ولقد علمت على تجنبي الردى .... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال النظام: فينبغي في مثل هذا القياس علي هذا التأويل, أنه ما قيل للمدن والحصون حصونا إلا على التشبيه بالخيل(15 ) اهـ , وسواء أكان القاضي يذهب إلى هذا التأويل أم كذب عليه, فكلام النظام في تسمية الحصون و المدن على التشبيه بالخيل, هو نفس كلام الجاحظ في تسمية الشيء باسم غيره على التشبيه والمثل والاشتقاق.
وكل ذلك حجج بينة على أن الناقلين لكتب أرسطو طاليس وغيره من الفلاسفة كانوا هم أول من أحدث في الإسلام ذكر المجاز و والاستعارة ,والاستعارة التمثيلية , والاشتراك اللفظي , ونقل الاسم من شيء إلى غيره , وكان ذلك في الشطر الآخر من المائة الثانية من الهجرة , وكانوا هم كذلك أول من أحدث القول بأن الاسم هو اللفظ , وكان ذلك القول شر مصيبة على علم اللسان العربي وفقهه , وأسأل الله القريب المجيب أن أبين ذلك في موضع يليق به
وعن أولئك الناقلين لكتب الفلاسفة أخذ ذلك أبو إسحاق النظام , وأبو الهذيل العلاف , وثمانة بن أشرس , وبشر المريسي , وأبو عبيدة , والجاحظ , وابن المعتز , وغيرهم من المتكلمين , ونهج أولئك المتكلمون في تفسير كلام العرب نهج أرسطو في تفسير كلام اليونان , واتبعوا في تفسير كلام الله تعالى , وكلام رسول صلى الله عليه وسلم سنن أرسطو في تفسير ضلالات اليونان وأساطيرهم , وجادل أولئك المتكملون بذلك عن قولهم بالمترلة بين المترلتين , وهي أول مسألة فرقت بين المعتزلة وغيرهم , وقولهم إن أسماء الإيمان والكفر والفسق نقلت فى الإسلام إلى غير ما كانت تدل عليه بلسان العرب , وعن كثير من إلحادهم في أسماء الله تعالى وقدره , وغيرها من بدعتهم وإفكهم , وأضلتهم تلك الفلسفة عن لسان العرب , فأهلكتهم العجمة .
2- كتاب الشفاء لابن سينا
وفسر ابن سينا في كتابه (( الشفاء )) كثيراً من كلام أرسطو في الخطابة والعبارة والشعر , وذكر المجاز , والاستعارة والتغيير والنقل , والتشبيه , وغيرها , وكلامه فيها هو نفس كلام أولئك المعتزلة , ومن ذلك قوله : والحقيقي هو اللفظ المستعمل في الجمهور المطابق بالتواطؤ للمعنى , وأما النقل فإنما يكون أول الوضع والتواطؤ على معنى , وقد نقل عنه إلى معنى آخر , وأما المغير فهو المستعار والمشبه ( 16) وقوله : وعندما يقول هوميروس في حديثه عن آخيل : كر كالأسد , فهذا تشبيه , وعندما يقول : كر هذا الأسد , فهذا مجاز , لنه لما كان الرجل والحيوان في هذا المثال ممتلئين شجاعة , صح أن يسمى آخيل أسداً على سبيل المجاز ( 17) ا هـ .
وهو نفس كلام أبي عبد الله البصري في النقل وفي الأسد , ونفس كلام الرماني في الفرق بين التشبيه والاستعارة , وذلك يدل على أن أولئك المعتزلة أخذوا كلامهم في المجاز والاستعارة من كتب أرسطو , وكان ما بأيديهم من النقل لتلك الكتب وشروحها أتم وأحسن من النقل القديم , وكان النقل القديم ناقضاً سقيماً , ولعله لذلك كان كلام أبي عبد الله البصري , والرماني أشبه بكلام أرسطو , واقرب لعبارته من كلام الجاحظ
وإذاً فهذا هو مصدر هذه الترهات جميعاً ..وكذلك كل قول فاسد في الاعتقاد واللغة والأصول والحديث فإنما نشأ في الأغلب الأعم من الاطلاع والنقل عن خرافات أولئك الوثنيين..ولذلك فضل بيان في موضع آخر بإذن الله..
============
الحواشي:
(1 ) الفهرست .. الفن الأول من المقالة السابعة : ( ص 310 ) .
(2 ) ذكره التوحيدي في المقابسات ( ص 60 ) .
(3 ) (( الخطابة )) ( ص 220 ) .
(4 ) (( الخطابة )) ( ص 221 ) .
(5 ) (( الخطابة )) ( ص 223 ) .
(6 ) (( الفهرست )) الفن الأول من المقالة السابعة ( ص 310 ) .
(7 ) فن الشعر لأرسطوطاليس , ترجمة عبد الرحمن بدوي (ص 57-59) .
(8 ) فن الشعر (ص64) .
(9) أي : من العبارات .
(10) غانوميدس في الأساطير اليونانية هو ابن طروس , وكانت اختطفته الآلهة , وزيوس أحد آلهتهم , وآلهة أرسطوطاليس لا يشربون الخمر , ولكنهم يشربون أي شراب ممزوج , ولفظ ممزوج , ولفظ الخمر في رأي أرسطو يطلق على أي شراب ممزوج , فلذلك جاز في نظره لهوميروس – شاعر الإلياذة , وسيد الشعراء غير مدافع في نظر أرسطو-أن يقول : إن غانوميدس كان يصب الخمر لزيوس , وكل الأمثلة التي ذكرها هنا هي من الإلياذة , وآلهة أرسطو طاليس كما يشربون أي شراب ممزوج , ولا يشربون الخمر , كذلك ينامون الليل كله , وخاب أقوام وخسروا يسمونه المعلم الأول ويتخذونه إماماً ! .
(11 ) (( فن الشعر )) (ص 74 – ص 76 ) .
(12 ) كتاب الحيوان : ( 1/ 331 – 332 , 5/279 – 280 ) .
(13 ) (( طبقات المعتزلة )) ( ص50 )
(14 ) (( طبقات المعتزلة )) ( ص44 )
(15 ) كتاب (( الحيوان )) ( 1/ 345 _ 346 )
(16 ) نقله د. المطعني (ص1053) وعزاه إلى كتاب ((الشفاء)) تحقيق د. عبد الرحمن بدوي (ص66-67) .
(17 ) (( مقدمة النثر )) د. طه حسين (ص14) .


الخميس، 10 يناير 2008

(6) اختلاف الألسنة..


(6) اختلاف الألسنة..

1- نقل الألفاظ إلى غير ما كانت تدل عليه هو اختلاف الألسنة , لا الحقيقة والمجاز
قال الله تعالى تعالى : ((ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)) , وألسنة الناس تختلف في الأحرف التي ينطقون بها , وهو ما يسمى علم الأصوات , وفي الألفاظ المفردة , وهو التصريف أو الصرف , وفي أوجه تأليف الألفاظ وجمع بعضها إلى بعض , وهو النحو , وفيما تدل عليه الألفاظ المفردة والمؤلفة , وهو علم الدلالة, وتكلم المستشرق الألماني برجشتراسر في اختلاف الألسنة , وسمَّاه التطور اللغوي , وتبعه على ذلك د. رمضان عبد التواب وغيره ( 1) , وأخذوا تلك التسمية من كلام دارون وأصحابه في التطور , وكلامهم كله باطل , وقول الله تعالى هو الحق المبين , والألسنة لا تتطور , ولكنها تختلف .
وأسرع ما تختلف فيه الألسنة هو ما تدل عليه الألفاظ , فاللفظة الواحدة قد تدل بلسان قوم على غير ما تدل عليه بلسان قوم آخرين , ويختلف ما تدل عليه اللفظة الواحدة بلسان نفس القوم من قرن إل قرن , وقد يحدث ذلك الاختلاف في قرن واحد منهم , وقد يحدث في قرون متقاربة , وكلما كان أولئك القوم أكثر عزلة عن غيرهم , قل اختلاف لسانهم من قرن إلى قرن , وظلت أكثر ألفاظهم تدل بلسان القرن اللاحق على نفس ما كانت تدل عليه بلسان القرن السابق , وأعظم ما تختلف به الألسنة هو اختلاط الأمم , ونقل الكتب من لسان إلى لسان , فالناس ينقلون الألفاظ كثيراً إلى غير ما كانت تدل عليه عند غيرهم , وبذلك النقل تختلف ألسنتهم , ولا يظل اللسان بعد ذلك النقل لساناً واحداً , ولكنه يصير ألسنة مختلفة , وإذا نقل رجلٌ لفظة أو ألفاظاً إلى غير ما تدل عليه عند قوم اختلف لسانه عن لسانهم , وحدث لسان جديد , وقد يكون ذلك الرجل شاعراً أو خطيباً , أو كاتباً وقد يكون سيداً مطاعاً أو عامياً وقد يتبعه على ذلك اللسان الجديد قومه , أو تتبعه طائفة من الناس فلسان كل قوم أو رجل هو ما تدل عليه الألفاظ في كلام ذلك الرجل وأولئك القوم , ولا ريب أن لكل قوم أولاً اتبعوه على لسانه , فإذا علم ذلك الأول نسب اللسان إليه , وإذا نسي وبعد العهد به ينسب اللسان إلى أولئك القوم .
ونقل الألفاظ إلى غير ما كانت تدل عليه قد يكون خطأ أو جهلاً باللسان الأول , أو خلطاً بينه وين لسان آخر , وبين لسان آخر , وقد يكون عمداً , واللفظة قد تنقل من العموم إلى الخصوص , فتصير خاصة بعد ما كانت عامَّة , وتنقل من الخصوص إلى العموم , فتصير عامَّة بعدما كانت خاصة , وتعزل عن الإضافة بعدما كانت تذكر إلا مضافة , أو تضاف إلى غير ما كانت تضاف إليه وتقرن به وقد يزاد فيما تدل عليه شيء أو أشياء أو تنقل من شيء إلى غيره , وقد يكون ما نقلت إليه يشبه ما كانت له أو يقاربه , فيسمي الشيء باسم ما يشبهه , أو باسم مكانه , أو ما يجاوره , أو يتصل به ويسمى الكل باسم البعض , أو البعض باسم الكل , وكل ما ذكروه من المجازات والاستعارات فهي أوجه من ذلك النقل , وقد تنقل اللفظة إلى شيء لا يشبه ما كانت له ولا يقاربه , وقد يكون ما نقلت إليه أبعد شيء عما كانت عليه , وذلك النقل كله خطأه وعمد لا ميزان له , ولا يجري طريقة واحدة , بل قد يكون ما نقلت اللفظة إليه أبعد شيء عما كانت له , ولو كان نقل الألفاظ إلى غير ما كانت تدل عليه له بميزان يوزن به , أو له طريقة واحدة أو طرق معدودة يجري عليها , لكان ما نقلت إليه اللفظة باللسان الآخر , يدلُّ على ما كانت له باللسان الأول , ولكن ذلك النقل لا ميزان له , ولا يجري على طريقة واحدة , ولا طرق معدودة , وهو يكون بأوجه من العمد والخطأ لا سبيل إلى حصرها , فما نقلت اللفظة إليه باللسان الآخر لا يهدي إلى ما كانت له باللسان الأول , ولا يدل عليه , والمتكلم بلسان قوم لا يعني إلا ما تدل عليه الألفاظ بلسان أولئك القوم , ولا يخطر بقلبه ما تدل عليه بلسان قوم آخرين لا قبلهم ولا بعدهم , وإذا كان اللسان الأول محفوظاً , علم ما كانت تدل عليه الألفاظ أولاً , وما نقلت إليه بعد ذلك , وأما إذا كان اللسان الأول ليس محفوظاً , فلا يعلم ما كانت تدل عليه الألفاظ أولاً , ولا يدري أنقلت أم لم تنقل , فذلك النقل لا سبيل إلى علمه إلا في لسانين محفوظين , أحدهما قبل الآخر .
ولسان العرب الذي حفظه الله تعالى لنا هو لسان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم قومه صلى الله عليه وسلم , ولا ريب أن لسان أولئك العرب كان يختلف عن لسان العرب القديم الأول قبلهم , ولسان العرب قبلهم لم يحفظ لنا , فلا ندري ما كانت تدل عليه الألفاظ بلسان العرب الأول , ولا ما نقل منها إلى غير ما كان يدل عليه , ولا ما لم ينقل , ولو حفظ لسان العرب الأول لم ينفع في دين الله شيئاً , والله تعالى أنزل كتابه وبعث نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وليس بلسان العرب قبلهم ولا بعدهم , فما تدل عليه الألفاظ في كتاب الله تعالى وحديث رسوله هو ما كانت تدل عليه عند أولئك العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وليس ما ما كانت تدل عليه قبلهم .
فإذا كانت العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم , يقولون أسدٌ لذلك السبع , ويقولون أسدٌ للرجل الجرئ الذي لا يفر , فلا تدري بأيهما تكلموا أولاً , ولا سبيل إلى العلم به , لا بنبأ صادق , ولا ببرهان , فإن لسان العرب القديم الأول ليس محفوظاً , وما ثقلت اللفظة إليه بلسان الآخر , لا يهدي إلى ما كانت له بلسان الأول , ولئن قلنا إنها كانت قبلهم تدل على أحدهما دون الآخر , فلقد صارت بلسانهم تدل عليها جميعاً , وصاروا يقولون : أسد للسبع والرجل سواءً , فلا تدل تلك اللفظة على أحدهما دون الآخر إلا بينة من كلام المتكلم أو حاله , والمحفوظ من كلامهم يشهد بذلك وسيأتي ذكره إن شاء الله , فقولهم : إنها وضعت للسبع , ثم نقلت للرجل , فهي حقيقة في السبع , مجازٌ في الرجل , زعم باطلٌ , وقولهم : إنها تدل على السبع بغير قرينة , ولا تدلُّ على الرجل إلا بقرينة , زعم باطل مثله , ولابدَّ لهم من هذين الزَّعمين في كل لفظة يدَّعون فيها حقيقة ومجازاً , وكلاهما زعم باطل لا حجّة لهم به , وإذا صارت اللفظة بلسان قوم تدل أكثر من دلالة , فلابدَّ أن يكون في كلام المتكلم أو حاله ما يبيِّن ما أراده بها , وسواءٌ أراد بها ما كانت له أوَّلاً , أو ما نقلت إليه بعد ذلك , وسواءٌ علمنا ما كانت له أولاً , وما نقلت إليه بعد ذلك , أم لم نعلمه .
2- اختلاف ألسنة العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم بعده
وألسنة العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ألسنة كثيرة مختلفة , وليس لسان العرب واحداً من لدن معد بن عدنان إلى آخر الدهر , ولا ألسنة غيرهم من الأمم , وألسنة العرب القدماء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ليست محفوظةً , ولو وُجد منها شيء , فلا يعلم ما يدل عليه إلا ظناً ؛ وكذلك كل لسان ذهب القوم الذين كانوا يتكلمون به , ثم وجد منه شيء قليل بعدهم مكتوباً , فلا يعلم ما كان يدل عليه عندهم إلا ظناً ؛ وحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ألسنة كثيرة , ونقل كثيرٌ من ألفاظ العرب إلى غير ما كان يدل عليه , فإن العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم خالطوا كثيراً من الأمم غيرهم , وتكلم بلسانهم من ليس منهم من المستعمرين من العجم والموالي , وكل من نشأ بين لسانين أخطأ فيه وغيره , ولم يزل ينزع به إلى لسانه الأول , ونقلت إلى العربية كثير من كتب الفلاسفة وغيرها , والذين نقلوا تلك الكتب لم يكونوا عرباً , فخلطوا كثيراً من ألفاظهم وكلامهم بكلام العرب وكلامهم إلى غير ما كان يدل عليه , وأحدثت طائفة من الكتاب والشعراء مذهب البديع , وأخذوه من كتاب العجم وشعرائهم وتوسعوا في الاستعارات , فنقلوا كثيراً من ألفاظ العرب وكلامهم إلى غير ما كانت تدل عليه , وتكلموا بما لم تتكلم به العرب , والمتكلمون من المعتزلة وغيرهم أخذوا كثيراً من ألفاظ الناقلين لكتب الفلاسفة ومن ألفاظ المتكلمين من اليهود والنصارى وغيرها من الأمم , وخلطوها بكلام العرب , ونقلوا كثيراً منه إلى غير ما كان يدل عليه وكانوا من العجم والموالي , وكذلك النحويون نقلوا كثيراً من ألفاظ العرب إلى غير ما تدل عليه , وكثير من ألفاظ النحويين تدل على نفس ما تدل عليه عند المعتزلة , وأكثر النحويين من البصريين والكوفيين ومن بعدهم كانوا معتزلة , وزعم كثيرٌ منهم أنهم كانوا لا يخلطون بين كلامهم في المنطق والفلسفة وكلامهم في النحو , وهو زعم باطلٌ , وكلامهم في النحو يكذبه , وما يدل عليه لفظ الاسم والصفة والعلة وغيرها عند النحويين هو نفس ما يدل عليه عند المعتزلة , والفقهاء من أهل الرأي والحديث , والصوفية وغيرهم من الخاصة والعامة , كلهم تكلموا بما لم تكن تتكلم به العرب , ونقلوا ألفاظ العرب إلى غير ما كانت تدل عليه , وحدثت ألسنة أخرى عربية مولدة , وكثرت تلك الألسنة واختلط بعضها ببعض وصارت اللفظة الواحدة تدل عند كل طائفة منهم على غير ما تدل عليه عند غيرهم , وقد تدل اللفظة في كلام رجل على غير ما تدل عليه عند غيره من الناس كلهم , وينقل ذلك الرجل تلك اللفظة إلى شيء لم يسبقه إليه أحدٌ , ولا تبعه عليه أحدٌ , فيكون ما تدل عليه بلسان ذلك الرجل خاصة غير ما تدل عليه بلسان غيره من الناس كلهم , وتلك الألسنة المحدثة كلها عربية أخرى غير لسان العرب الذي نزل القرآن به .
وتلك الألسنة المحدثة المولدة كانت قريباً من عهد النبي صلى الله عليه وسلم , ولعل بعضها حدث أوائله في آخر المائة الأولى , وقال أبو سليمان الخطابي في كتابه ((بيان إعجاز القرآن)) : أخبرني الحسن بن عبد الرحيم , عن أبي خليفة , عن محمد بن سلام الجمحي , قال : قال أبو عمرو بن العلاء : اللسان الذي نزل به القرآن , وتكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عربية أخرى غير كلامنا هذا (2 ) . اهـ , وهو في طبقات الشعراء لابن سلام , وقال ابن سلام بعده : قال أبو عمرو بن العلاء : ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا (3 ) اهـ ؛ وقال الخطابي : وقد زعم بعضهم أن كلام العرب كان باقياً على نجره الأول وعلى سطح طبعه الأقدم , إلى زمان بني أمية , ثم دخله الخلل , فاختل منه أشياء , قال : ولهذا صار العلماء لا يحتجون بشعر المحدثين , ولا يستشهدون به , كبشار بن برد , والحسن بن هانئ , ودعبل , والعتَّابي , وأحزابهم من فصحاء الشعراء والمتقدمين في صنعة الشعر , وإنما يرجعون في الاستشهاد إلى شعراء الجاهلية , وإلى المخضرمين منهم , وإلى الطبقة الثالثة التي أدركت المخضرمين , وذلك لعلمهم بما دخل الكلام في الزمان المتأخر من الخلل , والاستحالة عن رسمه الأول ( 4) اهـ وقال ابن برهان في كتابه ((الوصول إلى الأصول)) : وأما كلام الشافعي , وأبي حنيفة رضي الله عنهما فلا يحتج به ؛ لأن الحجة إنما تثبت بأقوال العرب والفصحاء الأقحاح الأفصاح , الذين أنطقتهم طباعهم , فأما من أخذ اللغة عن العلماء وتلقف من الأدباء , وقال ما قال عن الاجتهاد , فقوله لا يكون حجة , بل لابد من النظر في دليله(5 ) يعني لا يكون حجة في العربية وعلم لسان العرب , قال الشاطبي في كتابه ((الموافقات)) : ووجه آخر وهو أن كثيراً مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها , ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شيء , بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها , دع العرب المحفوظة اللسان , كالصحابة ومن يليهم من غيرهم , بل من ولد بعدما فسد اللسان , فاحتاج إلى علم كلام العرب , كمالك والشافعي وأبي حنيفة ومن قبلهم أو بعدهم , وأمثالهم , فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها , ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف , ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيراً , وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى (6 ) .اهـ وكلام أئمة العربية في ذلك كثير معروف .
3- لسان العرب الذي نزل القرآن به , هو لسان العرب قوم النبي
صلى الله عليه وسلم
فما تدل عليه الألفاظ في كتاب الله تعالى , وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم هو ما كانت تدل عليه في كلام أولئك العرب , قوم النبي صلى الله عليه وسلم , وليس ما كانت تدل عليه قبلهم , ولا ما صارت تدلُّ عليه بعدهم , ولا يفقه أحدٌ في الدين حتى يعلم ما كانت تدل عليه تلك الألفاظ عند أولئك العرب الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم ما تدل عليه الألفاظ عندهم من كلام أئمة العربية الموثوق بهم , وما تشهد به مواضع تلك الألفاظ في كتاب الله تعالى , وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات وحفظت ألفاظها , وأشعار العرب وأمثالهم التي يوثق بعربيتها ورواتها وكلام كل قوم المحفوظ عنهم يفسر بعضه بعضاً , ويبين ما تدل عليه الألفاظ عندهم , وإذا جمعت مواضع اللفظ في كلام قوم أو كثير منها ما يدل عليه عندهم , وما اختلف فيه أئمة العربية , فتلك الشواهد تدل المجتهد على الصواب فيه إن شاء الله تعالى .
وكل من فسر شيئاً من القرآن والحديث بغير ما كان يدل عليه عند العرب قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ فيه ؛ والمتكلمون من المعتزلة وغيرهم فسروا كثيراً من القرآن والحديث بأهوائهم , وبما تدل عليه الألفاظ عند الفلاسفة والناقلين عنهم , وليس بما تدل عليه عند العرب , فأخطأوا واختلفوا , وضلوا وأضلوا كثيراً من الناس , وكان لسان الفلاسفة والناقلين عنهم هو أضر الألسنة للمتفقهين ؛ وروي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب , وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس (7 ) . (7 ) .

==========================

الحواشي:

( 1 ) ((التطور النحوي للغة العربية)) محاضرات ألقاها برجشتراسر في جامعة القاهرة 1929 م ونشرها د. رمضان عبد التواب , و((التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه)) د. رمضان عبد التواب
( 2) ((بيان إعجاز القرآن)) ضمن ثلاث رسائل ص 45, 46
( 3) ((طبقات فحول الشعراء)) 1/10-11
(4 ) ((بيان إعجاز القرآن)) ص 46
( 5 ) ((الوصول إلى الأصول)) 1/347
( 6 ) ((الموافقات)) 3/96
( 7) صون المنطق والكلام : (1/47- 48) .

(5) نحاة في اعتزالهم معتزلة في نحوهم...فهلا أفاق المغترون...


المجاز .. بدعة اليونان .. فحمار المعتزلة

(5) نحاة في اعتزالهم معتزلة في نحوهم...فهلا أفاق المغترون...

وقال ابن جنِّي : بابٌ في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة : اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجازٌ لا حقيقة وذلك عامَّة الأفعال ؛ نحو : قام زيدٌ , وقعد عمرو , وانطق بشر , وجاء الصيف , وانهزم الشتاء , ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية , فقولك : قام زيد , معناه : كان منه القيام , أي : هذا الجنس من الفعل , ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام , وكيف يكون ذلك وهو جنسٌ , والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر , وجميع الآتي الكائنات من كل منْ وجد منه القيام , ومعلومٌ أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الدَّاخل تحت الوهم , هذا محالٌ عند كل ذي لبٍّ , فإذا كان كذلك علمت أن قام زيدٌ مجازٌ لا حقيقة , وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير , ويدلُّ على انتظام ذلك لجميع جنسه , أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل , فتقول : قمت قومةً , وقومتين , ومائة قومةٍ , وقياماً حسناً , وقياماً قبيحاً , فإعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها , وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليلٌ ؛ ألا تراك لا تقول : قمت جلوساً ولا ذهبت مجيئاً , ولا نحو ذلك , لما لم تكن فيه دلالة عليه , ألا ترى إلى قوله :
لعمري لقد أحببتك الحب كله وزدتك حبّا لم يكن قبل يعرف
فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اغترافه واستيعابه , وكذلك قول الآخر :
فقد يجمع الله الشيئين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فقوله : كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه , قال لي أبو علي : قولنا : قام زيد , بمنزلة قولنا : خرجت فإذا الأسد , ومعناه أن قولهم : خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس , كقولك : الأسد أشد من الذئب , وأنت لا تريدُ أنك خرجت , وجميع الأُسْد التي يتناولها الوهم على الباب , هذا محالٌ , واعتقاده اختلال , وإنَّما أردت : خرجت فإذا واحدٌ من هذا الجنس بالباب , فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازاً , لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه , أما الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد , وأما التوكيد فلأنك عظَّمت قدر ذلك الواحد , بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة , وأما التشبيه فلأنك شبهت الواحد بالجماعة ؛ لأن كل واحدٍ منهما مثله في كونه أسداً , وكذلك قولك : ضربت عمراً , مجازٌ أيضاً من غير جهة التجوز في الفعل وذلك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه , ولكن من جهة أخرى , وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه , ألا تراك تقول : ضربت زيداً , ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض , فقال : ضربت زيداً وجهه أو رأسه , ثم إنه مع ذلك متجوزٌ , ألا تراه قد يقول : ضربت زيداً وجهه أو رأسه , نعم , ثم إنَّه مع ذلك متجوزٌ , ألا تراه قد يقول : ضربت زيداً رأسه , فيبدل للاحتياط , وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله ولهذا ما يحتاط بعضهم في نحو هذا , فيقول : ضربت زيداً جانب وجهه الأيمن , أو ضربته أعلى رأسه الأسمق ؛ لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله , فيكون بعضه أرفع من بعض .
وبعد , فإذا عرف التوكيد لم وقع في الكلام , نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما , وما أشبه ذلك , عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام , ألا تراك قد تقول : قطع الأمير اللص , ويكون القطع له بأمره لا بيده , فإذا قلت : قطع الأمير نفسه اللص , رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة , لكن يبقى عليك التجوز من مكان إلى آخر , وهو قولك : اللص . وإنما لعله قطع يده أو رجله , فإذا احتطت قلت : قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله . وكذلك جاء الجيش أجمع , ولولا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه , وإن أطلقت المجيء على جميعه لما كان قولك أجمع معنىً , فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها , قال ابن جني : وكذلك أفعال القديم سبحانه , نحو : خلق الله السماء والأرض وما كان مثله , ألا ترى أنه عزَّ اسمع لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا , ولو كان حقيقة لا مجازاً لكان خالقاً للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا , وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضاً , لأنه ليست الحال التي علم عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو , ولسنا نثبت له سبحانه علماً ؛ لأنه عالم بنفسه , إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليست حال علمه بقيام زيد هي حال عمرو , ونحو ذلك (الخصائص : (2/449-453) ) اهـ

قلت: فأطال ابن جني كل تلك الإطالة , ولبَّس كل ذلك التلبيس , وتكلم بما لم يتكلم به عاقل من الناس , فلما ظنَّ أنه أحكم التلبيس صر بالشرِّ وأعلن البدعة , وقال : إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض مجازاً , وأنه لم يخلق أفعال عباده , وأنه سبحانه يعلم ما في السماوات والأرض مجازاً , ولا يعلم أفعال خلقه , وأنه لا يثبت لله سبحانه علماً , تعالى الله عن قوله علواً كبيراً , وذلك الكلام حجةٌ بينة على ضلال ابن جني وشيخه ابن الفارسي وأصحابهم من المعتزلة , وأنهم إنما اتخذوا القول بالمجاز طريقا لنصر بدعتهم , ولا حجة على أن قام وضع في أصل اللغة ليدل على كل قيام كان في الدنيا والآخرة ولكن قام عند العرب والعجم يدل على أنه كان منه قيامٌ , أي قيام ويعرف ذلك القيام بمن ينسب إليه , فإذا قيل : قام زيدٌ . عرف أنه قام قيام رجل من الناس , وكذلك أحب كل الحب , أحب كل حبٍّ يكون رجل من الناس , وكذلك كل فعل , والألف واللام في الأسد وما يشبهه قد يدل على الكل , ويدل على الجماعة والواحد ( ) , ولا حجة على أنها كانت وضعت أولاً للكل ثم نقلت مجازاً للواحد , ولا على أنها كانت وضعت للواحد , ثم نقلت للكل , وما أدري ابن جنِّي ولا غيره أنهم كانوا وضعوها أولا للكل ثم نقلوها للواحد , أو وضعوها ثم نقلوها للكل , وكل ذلك مزاعم لا حجة لها , وقول ابن جني إن الحقيقة ما أقرَّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة , والمجاز ما كان بضد ذلك , هو نفس قول أبي عبد الله البصري المعتزلي , وزاد عليه ابن جني أن كل مجاز فلابدَّ فيه من ثلاث , وهي : التشبيه , والتوكيد , والإتساع ؛ وكل ذلك تكلف باطلٌ , وخطأ مبين .

الأربعاء، 9 يناير 2008

(4) الردُّ على قولهم : إنَّ اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح..



(4) الردُّ على قولهم : إنَّ اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح..

الردُّ على قولهم : إنَّ اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح
لعل أبا هاشم الجبائي كان هو أوَّل من تكلم في ذلك من المسلمين , فأخذ أبو عبد الله البصريُّ المعتزلي لفظ الوضع من كلام شيخه أبي هاشم في بدء اللغة , فأدخله في حدِّه للحقيقة والمجاز , ثم زاد فيه أبو الحسين البصري المعتزلي لفظ الاصطلاح ؛ وقولهم : إن اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح ينسب إلى الفيلسوف اليوناني ديموقراطيس ( 1) , وهو من فلاسفة القرن الخامس قبل الميلاد , وهو من الفلاسفة الذريِّين , وهم أول من تكلم في الذرة وزعموا أن الكون كله مادة , وتلك المادة تتكون من ذرات , والذرات لا أول لها , فيهم من الدهريين الذين يقولون إن العالم لا أوَّل له , ولا يؤمنون بالغيب , وأكثر ما بقي من تراث ديموقراطيس هو ما نقله أرسطو في كتبه , وقسم تراسيليوس كتب ديموقراطيس إلى روابيع , وجعلها ثلاث عشر رابوعة , فيها اثنان وخمسون رسالة , وقيل : ستون رسالة , ومنها رابوعتان في اللغة والموسيقى والفن ( 2) , ولا يبعد أن أولئك المعتزلة كانوا وجدوا كلامه في بدء اللغة في بعض كتب أرسطو وشروحها , وكان بأيديهم كثير من تلك الكتب والشروح , وكان منهم من ينقل عن اليونانية بنفسه إلى آخر المائة الرابعة وبعدها , ولا يكتفون بما نقله حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين , ولا ما نقله المترجمون قبلهما وبعدهما , وكان النظام وغيره قد نقلوا كثيراً من كلام ديموقراطيس وأصحابه في الذرة , وسمَّوها الجزء الذي لا يتجزأ , والجوهر الفرد , فكلام المعتزلة في الجزء الذي لا يتجزأ وكلامهم في بدء اللغة , وكلاهما نقلاً عن أولئك الفلاسفة الدهريين ديموقراطيس وأصحابه , ولم يك كلامهم بعيداً عن أولئك المعتزلة , ولعله لذلك قرن عبد القاهر الجرجاني بينهما , ولما أطال الكلام في المجازات والاستعارات , اعتذر بقوله : إن الكلام في الجزء الذي لا يتجزأ يملأ أجلاداً كثيرة.

وتكلم ديمواقرطيس في التاريخ , والأخلاق والسياسة واللغة وقال : إنها كلها ترجع إلى المادة والذرات , وكلام ماركس ولينين في التاريخ والسياسة مثل كلامه فيها , وقال ماركس : إنه أول عقل موسوعي بين مجموعة الفلاسفة اليونان , وقا ل لينين : إنه أعمق وأذكى رجل أوضح الفكر المادي في العصر القديم , وهو موجد الذرية وصاحبها . اهـ
وأعجب أصحاب دارون بقول ديموقرطيس في بدء اللغة , وذلك أنه يضاهي قولهم في التطور والنشوء والارتقاء , وكلامهم في بدء اللغة هو نفس كلام ديموقراطيس , أو هو بيان وتفصيل له , واتبعهم جورجي زيدان في كتابه : ((الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية)) وغيره ممن اغترَّ بهم .
وأولئك الفلاسفة يزعمون أن الإنسان كان لا يتكلم , ولم تكن له لغة , وكان يعيش كما يعيش الحيوان , ثم إنه حكى الأصوات التي يسمعها من الريح والماء والرعد وغيرها , فنشأت له بذلك ضعيفة , ثم تطورت تلك اللغة شيئاً فشيئاً , وكثر الناس وصاروا يعيشون بعد التفرق في جماعات , فتواضعت كل جماعة منهم على لغة يتكلمون بها , وساعدتهم اللغة الأولى , والأصوات التي كانوا ينطقون بها على ذلك التواضع والاصطلاح , وأنهم وضعوا الألفاظ أولاً للصور المحسوسة , وأنهم وضعوا تلك الألفاظ للصور عشواء من غير أن يدل اللفظ على خاصة أو صفة في تلك الصورة , ثم صارت تلك الصور المحسوسة رمزاً لما لها من الخصائص والصفات المعقولة , ونقلت تلك الألفاظ من الصور المحسوسة إلى الصفات المعقولة في تلك الصور وغيرها , وشبَّه الإنسان المعقولات بالمحسوسات فالإنسان عند أولئك الفلاسفة وضع الألفاظ أولا للمحسوسات , ثم نقلها إلى المعقولات , وشبه المعقولات بالمحسوسات .

وأولئك الفلاسفة اليونانيون كانوا وثنيين , والوثنية أينما كانت تعبد الصُّور وهم كانوا يجعلون لكل شيء إلها , للحرب إليه , وللحب إله , وللمطر إله , وللريح إله , وغيرها , ويجعلون لكل إله صورة , فتكون ذلك الإله رمزاً لما ينفعهم به بزعمهم , فكذلك زعموا أن الألفاظ وضعت للصور , ثم صارت الصورة رمزاً للصفات المعقولة , ونقلت الألفاظ من الصور إلى الصفات وذلك القول هو شعبة من وثنيتهم , وعبادتهم للصور وسفاهة أحلامهم , وكفرهم بالغيب .
وقول أولئك الفلاسفة في بدء اللغة هو بعض قولهم في بدء الخلق , وهو باطلٌ كله وضلالٌ مبين , والقرآن يكذبه , والله تعالى خلق آدم بيده , وأسجد له ملائكته , وعلمه البيان , وعلمه الأسماء كلها وأمره ونهاه , وأسكنه جنته , وأهبطه منها , وأنزل إليه كلمات , وتاب عليه , وكان آدم أتم وأعظم خلقاً من بنيه , ولا زال الخلق بعده ينقص والأحاديث في ذلك بينة , ولا ريب أن لسان آدم كان لساناً تاماً بيناً , وأن آدم عليه السلام ذكر به الله تعالى , وذكر به ملائكته ,وجميع خلقه , وتكلم به عن الغيب والشهادة , وما يبصره بعينه , ويسمعه بأذنه , ويمسه بيده , ويعقله بقلبه , وتوسوس به نفسه , ونبّا بالأسماء كلها , وتكلم به بنوه من بعده حتى تفرقوا , فاختلفت ألسنتهم ونقصت .

فقولهم : إن الإنسان كان لا يتكلم ثم حكى ما يسمع من أصوات الرعد , والريح وغيرها , ثم اجتمعت كل أمة فتواضعت على لغة , ووضعوا الألفاظ أولاً للمحسوسات , ثم نقلوها بعد للمعقولات , كل ذلك باطل , لا برهان له.
وذلك القول الدهري الوثني يقيد البيان بالحسِّ , ويجعل القلب عبداً أسيراً للصور المحسوسة , لا يعقل شيئاً إلا أن يشبهه بتلك الصور , ويجعل الإنسان عاجزاً أن يتكلم عن شيء من الغيب إلا أن يشبهه بشيء من الشهادة , وأن يذكر الله إلا أن يشبهه بخلقه والبيان الذي علمه الله الإنسان أعظم وأعم من ذلك , والإنسان به يذكر الله وخلقه , ويتكلم عن الغيب والشهادة , ولا يشبه الله بخلقه ولا الغيب بالشهادة .

وأنكر قول أولئك الفلاسفة في بدء اللغة كثير من المتقدمين والمتأخرين والعرب والعجم ( 3) .
وأبو هاشم الجبائي وأصحابه أخذوا كلام أولئك الفلاسفة في بدء اللغة وتركوا كلامهم في بدء الخلق وحسبوا أنهم بذلك لم يخالفوا القرآن , وزعم ابن جنِّي أن قول الله تعالى : ((وعلم آدم الأسماء كلها )) لا يتناول موضع الخلاف , وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدر آدم على أن يواضع عليها . قال : وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة , فإذا كان ذلك محتملاً غير مستنكر سقط الاستدلال به ( 4) اهـ ؛ وذلك التأويل الذي زعمه ابن جنِّي لم يقل به أحد قبله , وآدم عليه السلام حين خلقه الله تعالى لم يكن معه بشر غيره , فمن الذي واضعه آدم على اللغة , والله تعالى كلم آدم , وكلم آدم ربه , وكلم الملائكة , وكلم زوجه , وكلمته زوجه , ووسوس الشيطان لهما وكلمهما ,والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة , وكلها حجة بينة على أن الله تعالى علم آدم الكلام والبيان، والقول الذي نقله ابن جني في أن اللغة بدأت بحكاية الأصوات المسموعة من الرعد والريح وغيرها , وقال : إنه عنده وجهٌ صالحٌ ومذهبٌ متقبَّل أهـ هو طور من الأطوار التي ذكرها القائلون بالوضع والاصطلاح , قالوا : إنه كان قبل الوضع والاصطلاح وليس هو قولاً وحده كما حسب ابن جنِّي .
وزعم أبو عبد الله البصريُّ وأصحابه أن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة , فصارت الحقيقة عندهم هي اللفظ المستعمل ليدل على شيء محسوس , والمجاز هو تشبيه المعقول بالمحسوس , ونقل اللفظ من المحسوس إلى المعقول , وزعموا أن لفظ أسد وضع للسبع أولاً , وضع لصورة ذلك السبع , وضع لها عشواء من غير أن يدل على شيء لا شجاعة , ولا غيرها , ثم صارت تلك الصورة المحسوسة رمزاً للجرأة والشجاعة , فسمِّي الرجل الشجاع أسداً , وشبه الرجل بالسبع ونقل ذلك اللفظ من تلك الصورة المحسوسة إلى الشجاعة المعقولة , ولعله ذلك قال السكَّاكي : إن لفظ أسد وضع للهيكل المخصوص , ولم يقل للحيوان , ولا السبع , ولا غيرها من الألفاظ التي ذكرها من قبله , ولا ريب أنه اختار ذلك اللفظ الهيكل المخصوص قصداً وعمداً , وأراد أن يؤكد به قول أولئك الفلاسفة , إن اللفظ وضع أولاً للصورة وحدها من غير شيء فيها , وضع لها عشواء , ذلك الصوت لتلك الصورة , وكان الجرجاني قبله زعم أن لفظ أسد وضع للشجاعة في تلك الجثة والصورة خاصة دون غيرها , وكلام السكَّاكي أشبه بمذهب أولئك الفلاسفة من كلام الجرجاني , وهو يدل على أن السكَّاكي كان أدرى بذلك المذهب الدهري الحسي في اللغة من الجرجاني وغيره , وكان لسان السكاكي وألفاظه أقرب إلى كلام أولئك الفلاسفة الدهريين وألفاظهم , ولعله لذلك فرَّق أولئك المعتزلة بين الاسم والصفة , وزعم أبو علي الفارسي وغيره منهم أن الاسم يكون واحداً وغيره صفات عند أولئك المعتزلة ( 5) , والأسد له اسم واحد عند العجم وليس عند العرب ( 6) ؛ وأراد أولئك المعتزلة أن يجعلوا الاسم للصورة وحدها دون ما فيها من الصفات , ولعلهم لذلك زعموا أن لفظ أسد نقل من السبع إلى الرجل الشجاع , ولم يزعموا أن لفظ الشجاع ليس اسماً لتلك الصورة , وأن اسمها هو الحية , وهذه الصورة صورة الحية ليست هي عندهم رمز الشجاعة وصورتها ولكن صورة الشجاعة عندهم هي الأسد .
وكذلك زعم أولئك المعتزلة أن لفظ اللسان وضع أولاً لذلك اللحم الذي يتكلم به الإنسان خاصة , ثم نقل إلى الكلام الذي يلفظ الإنسان به , ولفظ جناح وضع في أصل اللغة لجناح الطائر خاصة , ثم شبِّه به جناح الرجل , وجناح الملك , وجناح الجيش , وغيرها , ولفظ رأس وضع لرأس الإنسان خاصة , ثم قيل : رأس الأمر ورأس القوم , ورأس المال , ورأس الجبل , وغيرها , ولفظ اليد وضع لتلك الجارحة من الإنسان خاصة , وغيره مشبَّه به ,وغير ذلك من زعمهم , وجعلوا يدعون في كل معقول أنه مشبه بمحسوس , وأن اللفظ وضع للمحسوس حقيقة , ثم نقل إلى المعقول مجازاً , وزعم ابن جنّي وغيره أنه لابد في كل مجاز من التوكيد والتشبيه , والتوكيد عنده هو تشبيه المعقول بالمحسوس والعرض بالجوهر.

ولما زعم أولئك المعتزلة أن تلك الألفاظ وما يشبهها وضعت كلها في أصل اللغة لتلك الصورة المحسوسة , قالوا : إنها لا تليق بالله تعالى , وإنها تشبيه لله عز وجل بتلك الصور المحسوسة فأخذوا يخبطون ويتهوكون في تأويلها بتلك المجازات والاستعارات , وزعموا أنهم بذلك يوحدون الله تعالى , وينزهونه عن مشابهة خلقه , واتبعوا أولئك الفلاسفة , وأعجبهم ذلك القول الدهري الوثني في بدء اللغة , وحسبوه حجة يجادلون بها عن بدعتهم , وتلك المجازات والاستعارات التي يذكرونها كلها تشبيهات , واللغة كلها عند أولئك الفلاسفة الذين اتبعوهم هي تشبيه للمعقول بالمحسوس والغائب بالشاهد , وسلفهم من المعتزلة والجهمية الذين أحدثوا تلك البدعة ونفوا تلك الألفاظ عن الله تعالى , كانوا مثل أولئك الفلاسفة عجماً , قلوبهم أسيرة للصور , وألسنتهم مقيدة بالتشبيه , فلذلك أحدثوا تلك البدعة وأهلكتهم العجمة .
واتبعهم عبد القاهر الجرجاني وغيره , وحسب أن تلك التشبيهات والتمثيلات والمجازات والاستعارات هي أسرار البلاغة , ودلائل الإعجاز , وتشبيه المعقول بالمحسوس على طريقتهم هذه هو عجزٌ وعيٌّ وليس بلاغة وإعجازاً , وأي بلاغة أو إعجاز في ذلك التشبيه الحسي ؟ ولو كانت أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز في شيء من تلك المجازات والاستعارات , والتشبيهات والتمثيلات , لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل القرآن بلسانهم فعلموا إعجازه وآمنوا به , أسبق الناس إلى بيان تلك المجازات والاستعارات , وذكرها لمن بعدهم ؛ لئلا يخفى عليهم إعجاز القرآن .
وذلك القول الدهري الوثني في بدء اللغة كله باطلاً , لا حجة له , ولعل بعض اللغويين قبل أبي هاشم وأصحابه كانوا يقولون به , ويبدءون اشتقاق الألفاظ من شيء محسوس , فيزعمون أن ذلك اللفظ كان لكذا وكذا من المحسوسات , ثم ينتقلون منه إلى غيره , ولكن أبا هاشم وأصحابه كانوا هم أول من صرح بذلك القول وأظهره , ونقلوه عن الفلاسفة , واحتجُّوا به لبدعتهم .

وقولهم : المحسوسات والمعقولات , والحسي والمعنوي , كلها من ألفاظ المتكلمين , وليست من كلام العرب , وكلها تقسيمات باطلة , وتلك الألفاظ والتقسيمات كانت أضر شيء على دين الناس وقلوبهم , وكانت أفسد شيء لفطرتهم وبيانهم .

==========================(الح واشي)

1-ترجمته في ((طبقات الأطباء الحكماء)) لابن جلجل ص 33 , رقم (11) , و((الملل والنحل)) (2/112, 114 , رقم (11) , و((فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط)) ص 93-101 , و(( تاريخ الفلسفة اليونانية)) وولتر ستيس , ترجمة /مجاهد عبد المنعم ص 65- 69الذريون , و((خريف الفكر اليوناني)) د. عبد الرحمن بدوي , ص 170 , و((موسوعة الفلسفة)) له 1/507- 509 الذريون , وعربه بعضهم ديموكريت
2-((فلاسفة يونانيون من طاليس إلى سقراط)) ص 94
3-ومنهم فرنسوا لامي (1636- 1711) , ودوبونال (1754-1840) , وغيرهما , وانظر : ((اللغة)) ج . فندريس , ص 29-42 , ترجمة الدواخلي والقصاص , و((الفلسفة اللغوية)) جورجي زيدان , ص 127-129 , و132- 134 و((علم اللغة)) د. علي وافي , ص88 وما بعدها , و((المدخل إلى علم اللغة)) د. رمضان عبد التواب , ص111 , و((في علم اللغة العام)) د. عبد الصبور شاهين ص 71 , وغيرها .
4-الخصائص : (1/41)
5-الصاحبي : (ص114) , المزهر : (1/404-405)
6-الصاحبي : (ص21)